انسحاب روسيا

TT

نحن بحاجة إلى الاستفادة من القيادات الحالية في الولايات المتحدة وروسيا، القوتين العظميين في العالم، فمن ناحية هناك بوتين، الذي أسدل الستار على تلك الصفحات المظلمة من الشيوعية في تاريخ روسيا، والمعروف باعتداله وموقفه المحايد تجاه الأديان، والذي يفضل التفاوض على الحرب. وما يؤكد هذا التحليل هو تلك الكلمات التي كتبها في مقالته الأخيرة بصحيفة «نيويورك تايمز»، حيث قال: «نحن جميعا مختلفون، ولكن عندما نطلب البركة من الله يجب علينا أن لا ننسى أن الله خلقنا متساوين». ومن ناحية أخرى هناك أوباما، الذي لم يحول خطط المعركة الفاصلة الكبرى «هرمجدون» في الشرق الأوسط إلى مسائل سياسية، على عكس بعض الرؤساء الأميركيين، والذي يسعى لتحقيق النجاح في منطقة الشرق الأوسط من خلال خلق نوع من التوازنات، لا من خلال تدميره، والذي يرغب في الانسحاب منه إلى حد ما، والذي يفضل أيضا التفاوض على حساب الحرب.

قد لا يتفق البعض معي، علاوة على أن هؤلاء القادة ليسوا معصومين من الأخطاء، ولكن مع الأخذ في الاعتبار القادة الشيوعيين الدمويين الذين دمروا العالم، أو المحافظين مثل بوش الذين يعتقدون أن تحول الشرق الأوسط إلى ساحة معركة كان واجبا دينيا، يجعلنا نؤكد على أننا بحاجة إلى تحقيق أفضل استفادة ممكنة من بوتين وأوباما في وقت الاضطراب الذي نعيش فيه.

إنه لشيء جيد أن الزعيمين لا يريدان الحرب، ولكن الوسائل التي يتجنبان اللجوء إليها في موضوع سوريا تعد شيئا معيبا على نحو خطير. لماذا؟ لقد شهد العالم أجمع التوصل إلى «اتفاق دبلوماسي» الأسبوع الماضي بشأن الوضع في سوريا. وقد استغلت روسيا التصريح «الارتجالي» لوزير الخارجية الأميركي جون كيري وأخذته على محمل الجد ووضعته كاقتراح لحل الأزمة السورية، واستجابت سوريا لهذا الاقتراح في غضون دقائق قليلة. لقد دهش البعض لحدوث ذلك، وكأن النظام السوري يمكنه رفض أي اقتراح من موسكو!

ولو سألني أحد عن رأيي في ذلك فأنا أرى أن هذا إعلان واضح بانسحاب روسيا من القضية السورية، وقد أعطى بوتين في واقع الأمر إشارات على ذلك عدة مرات من قبل، حيث قال: «لن ننحاز إلى أي طرف إذا كان هناك هجوم»، و«أرسلنا سفنا إلى البحر الأبيض المتوسط فقط بغرض إجلاء رعايانا في حالة وقوع هجوم»، و«سوف نعارض كل من يستخدم الأسلحة الكيميائية وفقا لتقرير الأمم المتحدة»، وهو ما يعكس صورة جديدة لروسيا التي كان يتوقع أن تكون «حازمة وواقية» في موضوع النظام السوري. وكان العرض اللاحق من قبل الولايات المتحدة بأنه «يتعين على الأسد تسليم الأسلحة الكيميائية، والتحول إلى المفاوضات» بمثابة إنقاذ لروسيا التي تبحث عن وسيلة للخروج من المعضلة السورية. ما نراه في واقع الأمر هو تحالف سري بين طرفي النزاع في الحرب الباردة روسيا وأميركا، فكلاهما يتراجع بصمت من المشكلة السورية، وكلاهما يدعم مواقفه بتحركات بارعة.

فما الذي تغير في سوريا في الوقت الذي يحدث فيه ذلك؟ ربما نسي البعض حقيقة هامة للغاية عندما تم التركيز على قضية الأسلحة الكيماوية، ودعوني أذكركم بأن 101513 شخصا قد لقوا حتفهم في سوريا، وأن من بينهم 89644 مدنيا، بنسبة تصل إلى 88 في المائة. وعلاوة على ذلك، كان من بين المدنيين الذين لقوا حتفهم 10913 طفلا، وهو ما يعني أن طفلا سوريا يموت كل ساعتين تقريبا. ومن بين هؤلاء الأطفال قتل 530 طفلا تحت سن العاشرة باستخدام الآلات الحادة، وليس من خلال «رصاص بشكل عشوائي» أو «قنابل عشوائية»، وكان هناك علامات واضحة على التعذيب على جثث البعض.

وبالإضافة إلى ذلك، هناك 215,000 معتقل في سوريا، من بينهم 80,000 في عداد المفقودين، وقد لا يظهر هؤلاء المفقودون غير المدرجين في عدد القتلى، مرة أخرى، مثل أولئك الذين كانوا مفقودين في المجازر التي ارتكبها حافظ الأسد من قبل!

ومن بين القتلى البالغ عددهم 101,513 في سوريا لم يقتل سوى 1300 شخص بالأسلحة الكيماوية: فقدت سوريا نفس العدد من الضحايا في الأسبوع التالي لشن الهجمات الكيماوية، ولكن عن طريق أسلحة تقليدية. وقد تم استخدام الأسلحة الكيميائية في مناسبات أخرى في سوريا، ولكن العالم الخارجي ركز لسبب أو لآخر على يوم واحد فقط من ثلاث سنوات كاملة من إراقة الدماء، وكأن ما حدث قبل أو بعد الحادي والعشرين من أغسطس (آب) لم يكن مهما على الإطلاق، وكأن المجزرة الكيماوية هي أعظم جريمة في العالم، ولكن ثلاث سنوات من سفك الدماء شيء عادي وغير هام!

وينبغي أيضا أن أذكر القراء بأن تدمير الأسلحة الكيميائية هو مجرد خيال، حيث قالت سيفيل أتاسوي، وهي خبيرة في الطب الشرعي التركي، إنها عملت جنبا إلى جنب مع بعض العلماء السوريين الموهوبين خلال فترة وجودها في الأمم المتحدة، وإنها كانت تعمل في عمليات التفتيش في سوريا، وإنها أكدت أن سوريا دولة خبيرة في ما يتعلق بإنتاج الأسلحة الكيميائية. وأضافت أتاسوي: «البنية التحتية والمصانع والقوى العاملة في سوريا في رأيي مناسبة بشكل مثالي. لم يسبق لسوريا أن قامت باستيراد غاز السارين، ولكنها تقوم بتصنيعه». وعلى هذا الأساس فإن سوريا لا تعتمد على العالم الخارجي أو أطراف ثالثة لإنتاج الأسلحة الكيماوية، وهو ما يعني أن دمشق ستكون قادرة على إنتاج الأسلحة الكيماوية مرة أخرى في حال تدمير الأسلحة الحالية. وعلاوة على ذلك، يفتقر العالم إلى الخبرة في مجال تدمير الأسلحة الكيميائية، والولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي لديها القدرة التقنية على تدميرها باستخدام معدات متخصصة. وحتى يتم القيام بذلك للمرة الأولى في سوريا، فسيكون هناك حاجة لأجهزة عملاقة يتم تثبيتها في مكان آمن في سوريا. وبعبارة أخرى، لا بد أولا من توفير بيئة آمنة للغاية وتوقف الحرب الأهلية، ولكن لا توجد حتى الآن تدابير تهدف إلى وقف تلك الحرب، ولا أحد يعرف كم عدد الأسلحة التي سيسلمها الأسد وكيف سيتم تدميرها. وربما لا يعني مصطلح «حل دبلوماسي» أكثر من مجرد براعة في الخداع!

وإذا كان القادة الأميركيون والروس يهدفون حقا لتجنب الحرب ورؤية إدارة موثوق بها في سوريا وأن تبقى الدولتان قوتين عظمتين في العالم في الوقت الذي يحدث فيه ذلك، فيتعين عليهم – كما قلت في مقال سابق – أن يدعموا ترحيل جميع سكان سوريا واستقرارهم في مكان آمن في بلدان أخرى، كما يتعين عليهم دعم البلدان الإسلامية في إنشاء قوة مسلحة رادعة ضد سوريا. إنه مناخ مثالي؛ زعيم مسلم لبلد مسلم في ظل حالة من القمع وفقد السيطرة على كل شيء، لا يمكنه إلا أن يفهم قوة مؤلفة من المسلمين كتهديد له. ويجب أن يحدث الشيء نفسه مع المتطرفين. وفي الوقت الذي يتم فيه العمل على التوصل لحل في هذا الإطار، يتعين على الولايات المتحدة وروسيا التركيز على إخماد النيران وليس إشعالها.