هل تملك الثقافة ما لا تطيقه السياسة؟

TT

يبدو السؤال، للوهلة الأولى، سؤالا غريبا، لا بل إنه، في أعين العديدين، سؤال ساذج ينم عن «الجهل بطبائع العمران»، كما يقول عظيمنا ابن خلدون مثلما أنه يكشف عن إغفال تام لما عرفته العلوم الإنسانية من تطور مند منتصف القرن التاسع، وكذا لما شهدته مناهجها من قفزات معرفية هائلة. وما تفيده مختلف هذه المعارف هو أن أثر السياسة قوي حاسم، فهي بتوسط الآيديولوجية والفعالية الآيديولوجية، تتغلغل في كل مظاهر الحياة وتكتسح كل مجالات الفعاليات الاجتماعية والروحية والفكرية.

ومن المسلمات الأولية في المادية التاريخية أن الطبقة الاجتماعية التي تقدر على السيطرة على وسائل الإنتاج المادي تعمل على تأكيد سيطرتها المادية بالسيطرة الفكرية. يتجلى ذلك في مراقبة المدارس والبرامج التعليمية وفي مراقبة وسائل الإعلام وكل ما ينعته المفكر الماركسي المعروف لويس ألتوسير بـ«الأجهزة الآيديولوجية للدولة»، أي تلك التي تمكنها من بسط نفوذها الكامل، فليست تسمح بالظهور للأفكار والنظريات إلا بما كان مناسبا لها من أجل استمرار سيطرتها المادية.

والحق أننا لو مضينا نتصفح أخبار الأمم والشعوب المتقدمة لوجدنا بسهولة ما يؤكد هذا المعنى نوعا من التأكيد. كانت الدولة دوما تسعى إلى تشجيع وإذاعة الفكر الذي يسعى إلى دعم نفوذ الدولة وعدم التشويش، بل لم تكن تتورع عن التنكيل بكل دعاة الأفكار والنظريات التي تعد في نظر تلك الدولة ومفكريها وفي أعين المتزلفين إلى السلطة السياسية القوية أفكارا ونظريات سيئة وهدامة (هي، بطبيعة الحال، كذلك لأنها تسعى إلى تقويض فكر الدولة القائمة والتشويش عليه وتأليب الناس ضده). ولو أننا نظرنا في تاريخنا العربي الإسلامي لألفينا أمثلة عديدة تؤكد هذا المعنى.

غير أننا لو أعملنا الفكر في المعاني العميقة التي تفيدها الثقافة، وقد أخذت في دلالتها الواسعة، في المعنى الذي توضحه لنا اليوم، الأنثربولوجيا وما اتصل بها من المجالات الفسيحة.. لو فعلنا لوجدنا أن هنالك بالفعل ما يحمل على مراجعة الاعتقاد الشائع الذي يقضي بأن الآيديولوجية، ذلك المجموع الخطير من الوسائل والإمكانات التي تملك الدولة السيطرة عليها وتسخيرها لخدمة أهدافها البعيدة والقريبة، وحماية مصالحها المضمرة والمعلنة. لو أننا فعلنا لوجدنا أن الفعالية الثقافية، وفقا للمنطق الذاتي الذي يحكمها ويوجهها، تطال من الوعي مناطق ليست الأجهزة الآيديولوجية للدولة تملك أن تبسط عليها نفوذها كاملا، وليس لتلك الأجهزة أن تحكم القبضة عليها، أيا كانت قوتها وتوسلها بوسائل التأثير النفسي وامتلاكها للتكنولوجيا الحديثة. كيف لنا إذن أن نفسر هذا التأثير السيكولوجي القوي الذي تمارسه مظاهر الاستهلاك الغربي (الأميركي تحديدا) على الفئات العمرية المختلفة في المجتمع الصيني والحال أن قبضة الحزب الشيوعي الحاكم لا تزال قوية محكمة، والحال أن الآيديولوجية الرسمية للدولة لا تكف، صباح مساء، عن مهاجمة الغرب الرأسمالي ونزعاته الاستهلاكية «البورجوازية المتعفنة»؟ كيف يكون لنا، في ظل المنظور القديم إلى الصلة بين الآيديولوجية والسيطرة والثقافة، أن نفسر هذا الغزو الثقافي للصين المنيعة والعصية على الاختراق الآيديولوجي؟

بيد أن ما يعنينا خاصة وما يستوقفنا ويحثنا على استخلاص العبرة والدرس وما يحملنا على أخذ السؤال الذي جعلناه موضوعا لحديثنا اليوم مأخذ الجد (هل تملك الثقافة ما لا تطيقه السياسة؟) هو حال الثقافة العربية اليوم، أو قل، إذا شئت، حال الهوية الثقافية العربية حاضرا.

تحدثنا، من هذا المنبر، عن المشترك العربي الثقافي العام (أو ما يجوز القول عنه، في عبارة أخرى، إنه المشترك بين العرب جميعهم في مستوى الثقافة، مع اختلافهم في مستويات شتى ترجع إلى الجغرافية وإلى التاريخ المحلي والتلوينات المحلية بالتالي)، ويبدو أنه من المفيد أن نعين العناصر الأساسية التي تدخل في تكوين هذا المشترك العام أو، بالأحرى، نذكر بها. نعمل الفكر فنرى أنها عناصر ثلاثة، ولربما صح القول إنهما عنصران اثنان، يتكون عن اجتماعهما وانصهارهما في بوتقة كبيرة (تعمل فيها عوامل أخرى مساعدة أو مكملة) محصلة أو ناتج جديد. العنصر الأول هو اللغة العربية، والعنصر الثاني هو الدين الإسلامي وقد تم تمثله على نحو معين تفعل فيه العوامل التي ننعتها بالمساعدة أو المكملة، وأما المحصلة أو الناتج الجديد فهو ما يمكن أن ننعته بجملة الأذواق الباطنة المشتركة التي تسكن الوجدان العربي أو، في تعبير آخر، جملة الحساسيات الجمالية التي ينفعل بها الكيان الثقافي العربي الذي يلتقي عنده العرب جميعا، من البحر إلى البحر. من ثم يكون الانفعال بالأغنية الواحدة على امتداد العالم العربي، ونجد الإقبال الكثيف على مشاهدة المسلسلات التلفزيونية المصرية والسورية واللبنانية والسعودية في شهر رمضان - والأمثلة كثيرة متنوعة.

نعم، تتكيف الحساسيات الجمالية بجملة معطيات محلية ترجع إلى أثر العوامل الإثنية واللغات المحلية، فالأمازيغية في مناطق من المغرب العربي حقيقة تاريخية واجتماعية لا سبيل إلى إنكارها، غير أنها لم تؤثر في التاريخ الثقافي العربي سلبا على القاعدة الثقافية الأساسية، بل إنها ازدادت بها غنى وتنوعا. وفي المغرب والجزائر حماة للغة العربية ومدافعون عن الإسلام ملتزمون به أقوى ما يكون الالتزام، وهم في تاريخ الحضارة الإسلامية في المنطقة فاعلون أساسيون. لا، بل الحق أن الفضل يرجع إلى أولئك العلماء في بلورة الحضارة تماما كما كان الشأن بالنسبة لغير العرب من المسلمين في إرساء قواعد النحو والبلاغة وأصناف شتى من التراث العربي الإسلامي.

ما أود الانتهاء إليه هو أن هذا الذي أقول عنه إنه المشترك العربي الثقافي يفلت من إزار السياسة ويهرب من شرك الآيديولوجية. قد ندرك هذا المعنى متى نظرنا إلى المسألة من جهة مغايرة تقوم بالتمييز بين الفعل المقصود الذي يرجع إلى الدولة وإلى الآيديولوجية والتخطيط، وبين العمل غير المقصود أو ذلك الذي لا يكون به للدولة سلطان على النفوس والعقول. عن هذا الفعل الأخير أقول إن الثورة المعلوماتية والتطور الكيفي الهائل الذي شهده مجال التواصل والإعلام في السنوات العشر الأخيرة قد عملا على تقويته وتعميقه في العقول وفي النفوس. وفي هذا الصدد لا مغالاة في القول إن العولمة، من حيث هي تسخير للتكنولوجيا، قد عملت على خدمة هذا الفعل غير المقصود.

إنني أجيز لنفسي القول بأن الشعور العروبي، في مختلف أرجاء العالم العربي، قد عرف نقلة كيفية جلية، بشهادة ما نرى ونسمع وبدلالة هذا الإقبال من المواطن العربي، في مختلف الدول العربية، على الشأن العربي في كل بلد عربي يعرف حركة جلية أو انتفاضا يحمل الناس إلى الشوارع والميادين.