الحرب على الإرهاب.. من الجانب الآخر

TT

استكمالا لحديث الأسبوع الماضي عن تغطية أحداث مصر نلاحظ الانتقائية؛ فلو أجريت إحصاء لتغطية صحف وإذاعات اليسار لشهرين من أخبار مصر تجد شبه غياب لأحداث الحرب التي يخوضها المصريون ضد الإرهاب في سيناء.

وناهيك عن سقوط الضحايا (خاصة أن أساس الخبر الصحافي هو البشر وما يحل بهم)، فحملة سيناء لها أبعاد استراتيجية وتاريخية، سواء على مستوى الأمة المصرية، أو إقليميا بسبب تورط حركة حماس (يعدها خبراء حركات التنظيمات الجهادية أحد الأجنحة المسلحة لـ«الإخوان» وبالأدلة الظرفية، والقانونية المادية في قضايا منظورة الآن أمام المحاكم). وهذا يضيف أبعادا إسرائيلية وفلسطين-ية ويشرك البلدان التي تنشط فيها منظمات فلسطينية، كالأردن ولبنان وسوريا والخليج، إلى جانب البعد الدولي في مكافحة الإرهاب، أو المحادثات الفلسطينية - الإسرائيلية برعاية أميركية.

ولست من مريدي نظرية المؤامرة لأفسر التجاهل بخشية القائمين على التحرير في تلك الصحف بتنبيه تغطية أحداث سيناء للرأي العام البريطاني إلى مسؤولية جماعة الإخوان وعلاقاتهم بالجماعات الإرهابية في سيناء؛ ونادرا ما تجد صحافيا لم يشاهد تصريح الزعيم الإخواني البلتاجي لـ«الجزيرة» القطرية يوم 13 يوليو (تموز) مؤكدا بثقة قدرته على إيقاف الإرهاب في سيناء «في ساعة واحدة من عودة مرسي إلى قصر الرئاسة». ولأني من مدرسة التعامل مع الوقائع والأدلة لا استنتاج المؤامرة من ربط الأحداث، وخشية ارتكاب إثم سوء الظن بإصرار «بي بي سي» على سياق narrative أن الصراع يقتصر على الجيش و«الإخوان» في غياب الشعب، فسأسلم بأن بصرنا خدعنا ولم تشهد شوارع مصر 35 مليونا يقولون لمرسي «ارحل» ويشيرون لـ«الإخوان» باتجاه مزبلة التاريخ، بل كان سرابا من وهج شمس مصر ما بين 28 و30 يونيو (حزيران)، وسأكسب «ثواب» حسن الظن وأقول: إن تجاهل أحداث سيناء مجرد كسل ونقص في الإمكانيات المهنية.

وسأخبر القارئ عندما يسفر اجتهادي في البحث عن تفسير لاختيار الـ«بي بي سي» لما يسمون «بضيوف» للتعليق على أحداث مصر. كلهم بلا استثناء من التنظيم الدولي لـ«الإخوان» بلافتات مختلفة، مع غياب ممثلي الأحزاب المصرية التاريخية كالوفد (الذي سبق تأسيسه جماعة الإخوان بعقد كامل واكتسح انتخابات 1922 لتشكيل أول حكومة وطنية منتخبة كاملا بزعامة سعد زغلول باشا) أو الأحزاب التي كان لها تمثيل برلماني مستمر منذ عودة التعددية الحزبية في سبعينات القرن الماضي، كالأحرار، والتجمع، والغد (أو الوطني الديمقراطي خاصة أن الـ«بي بي سي» و«الغارديان» يكرران ادعاء عودة رجال نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك إلى إدارة مصر)، أو نواب انتخبوا لبرلمان 2011 كالمصريين الأحرار، والدستوريين الديمقراطيين مثلا.

الطريف أن محرري الأخبار وشؤون الساعة سيشهرون إرشادات التحرير المهنية Editorial guidelines في وجه المحتج لأنها لا تلزمهم بتغطية سفك دماء المصريين في سيناء؛ وسيجدون ألف مبرر لتجاهل قرابة مائة حزب وتيار سياسي تعمل منذ 2011. بل سيجدون في لائحة الإرشادات طوق نجاة من الغرق في مستنقع تدني المستوى المهني. إذن يبقى بند توخي الدقة وإصلاح المعلومة الخطأ.

صباح الخميس قتل رصاص الإرهابيين ضابط بوليس مصريا أثناء البحث عن المسلحين في قرية كرداسة جنوب القاهرة، حيث ضبط 14 من الجهاديين بأسلحة نارية ومفرقعات، حسب البيان الصحافي للبوليس الذي شرح كيف يجري تفتيش القرية بحثا عن أسلحة ومفرقعات؛ فكيف صاغ محررو نشرات الأخبار الفقرة؟

«القوات المصرية تفتش القرية من بيت إلى بيت بحثا عن زعماء الإخوان»، (لم يرد لـ«الإخوان» ذكر في بيان البوليس، ولاحظ كلمة «قوات» تعطي الانطباع بتورط الجيش) وعلى المصريين الامتنان لكرم مذيع «بي بي سي» بعدم إضافة «زنقة.. زنقة» لعبارة «التفتيش من بيت إلى بيت».

الأكثر طرافة التقرير من كرداسة معقل الإخوان وصور مرسي في كل مكان «إطلاق نيران بكثافة من فوق أسطح منازل القرية من مجهولين...»، قالها المراسل «وبراءة الاستهبال في عينيه»، والأكثر براءة طبعا «الإخوان»، فقتلة ضابط البوليس مجهولون.

عملية تطهير كرداسة من أسلحة الإرهابيين حدث ليوم أو يومين؛ ومواجهة الإرهابيين في سيناء دخلت شهرها الثالث مع تجاهل صحافة اليسار التي تصر على ضرورة (ويعلم الله ضرورة لمن؟) مشاركة «الإخوان» الحكم في مصر، وتسمي اضطرار الجيش للتدخل لتنفيذ إرادة الشعب وإطفاء لهيب الصراع في مطلع يوليو بـ«انقلاب».

وسواء عن جهل أو تدني المستوى المهني أو «استغباء»، فإن القارئ والمستمع والمتفرج البريطاني تفوته تغطية تطور تاريخي في الحرب على الإرهاب، بتقصير لا يغتفر في استكشاف العلاقة التاريخية بين الشعب والجيش المصري، باعتبارها مكونا روحيا وثقافيا أساسيا من وجدان الأمة. ومثلما شرحت الأستاذة عزة سليمان، الباحثة في التاريخ المصري القديم، في دراستها في مطلع العام المصري الجديد (منتصف ليلة 10 - 11 سبتمبر/ أيلول وهو بداية عام 6255 بالتقويم المصري) أنه منذ عهد الأسرة الثالثة قبل 4200 سنة وقادة الجيش المصري يعملون على تقوية الحدود الشرقية وحمايتها بالسلاح سنويا وأن اسم مدينة رفح مشتق من المصرية القديمة لكلمتي «را - بح» وتعني الحدود؛ أي أن حماية الحدود عند رفح مهمة توارثها قادة الجيش المصري لخمسة آلاف عام وليست نتيجة تطور أحداث الحرب على الإرهاب.

وقارن مثلا «استغباء» الصحافة البريطانية والـ«بي بي سي» اللذين عجزا عن دراسة عمق العلاقة الوجدانية بين الجيش والشعب، ببحث مراسل «نيوزويك» مثلا أثناء ثورة ميدان التحرير عام 2011 عن الأستاذة عزة سليمان للقائها لتشرح للقارئ الأميركي من التاريخ القديم من عهود أحمس ومينا ورمسيس وبالوثائق، الدور الذي تكرر أجيال المصريين انتظاره من جيشهم في الأزمات القومية وتلبية الجيش للحاجة الشعبية عبر قرون طويلة منذ فجر التاريخ، أو «فجر الضمير» – عنوان دراسة عام 1933 للدكتور جيميس هنري بريستيد (1865 - 1935) أول أستاذ للمصريات في أميركا؛ في كتاب يعد أحد أهم المراجع وأقدمها عن تطور الضمير الأخلاقي الإنساني مع إرساء قواعد الدولة المصرية قبل خمسة آلاف عام.

ولا أعتقد، تاريخيا، أن هناك خسارة تذكر ستعود على المصريين من تدني مستوى التغطية الصحافية في بريطانيا، بل للأسف الخسارة تعود على الجمهور البريطاني في حرمانه من معلومات قد لا تتاح أمامه فرصة أخرى في جيلنا لعرضها في عموم الصحافة.