إعادة صياغة الصورة!

TT

حتى الدول لها وضعية ذهنية في عقول الناس، وهناك دول تُعرف بشيء ما وتكتسب السمعة التراكمية جراء ذلك الأمر حتى تتكون حولها صورة ذهنية ويتحول ذلك إلى رأي راسخ. فالهندسة والدقة والجودة أصبحت من نصيب الألمان، ولذلك يُقدم المستهلك على شراء السلع الألمانية وهو إلى حد كبير مطمئن ومرتاح بأن قراره لن يكون مصحوبا بأي مفاجآت غير سارة.

وكذلك الأمر بالنسبة للمنتج السويسري الذي بات يعرف بالدقة والإتقان غير العاديين وأصبح مضربا للأمثال، وهناك التصميم الجمالي والجاذبية، وهما طبعا من نصيب إيطاليا التي لا يضاهيها أحد في هذين المجالين أبدا، وإذا ما تحدثنا عن الفخامة والرفاهية فهما من نصيب فرنسا بلا منافس، ولكن السؤال: هل من الممكن أن تغير الدول «الصورة الذهنية الراسخة» وتغير من هويتها؟

سنغافورة في الثمانينات الميلادية من القرن الماضي أقدمت على هذا الأمر.. كانت سنغافورة بلدا صغيرا جدا عرف اقتصاده بأنه «ورشة» صناعة لكل ما هو رخيص ويحتاج إلى تكلفة متدنية وجودة متوسطة وأيدٍ عاملة رخيصة، ولكن حكومتها وقتها كانت برئاسة العبقري الفذ لي كوان يوو الذي كان يسعى لنقل بلاده إلى مصاف دول العالم الأول، أدرك أنه لن يستطيع الحفاظ على تنمية اقتصاد بلاده على هذا النموذج الاقتصادي وحده، لأن النموذج هذا عاجلا أم آجلا سيُهدد من دولة أخرى لديها أيدٍ عاملة أرخص وتكلفة أقل، وبالتالي سيرحلون إليها لتصنيع البضائع، وهذا ما حصل مع انفتاح الصين وفيتنام وكمبوديا وغيرها من الدول الآسيوية.

وانتقل الرجل ليركز على الخدمات، وأصبح اقتصاد سنغافورة خدميا بالدرجة الأولى، معتمدا على رأس المال البشري والأفكار، فتألق في مجالات السياحة والمصرفية والاتصالات والطب والتعليم وإدارة الموانئ وإدارة المطارات وشركات الطيران والتدريب حتى تحولت سنغافورة بالتدريج إلى دولة «مصدرة» للمعرفة والخبرة التراكمية التي تولدت عبر الزمن وباتت تُقلد وتُتبع، وما نجاحات دبي إلا شهادة بحق سنغافورة التي ألهمتها الفكرة لأن تتحول إلى ما هي عليه اليوم، فـ«طيران الإمارات» هي نموذج مطور لـ«طيران سنغافورة»، وميناء جبل علي هو فكرة مطورة لمرفأ سنغافورة، وشركة «اتصالات» هي نموذج محسن لشركة «سينتل»، ومطار دبي هو نموذج مطور لمطار شانجي الدولي بسنغافورة، وغيرها من النماذج المهمة واللافتة.

وهناك دول أخرى تمر بتجربة مهمة لإعادة صياغة هويتها الذهنية المثقلة بالسمعة السلبية والسيئة وهي تايوان. تايوان عرفت دوما بأنها مصنع العالم لكل ما هو رخيص جودة، ورخيص قيمة، ورخيص ثمنا، وأنها مركز لما يمكن تقليده، وبالتدريج تنامت سمعة البلد بشكل سلبي حتى باتت تستخدم في وصف كل ما هو غير جيد صناعيا، فيقال عن الشيء إنه «تايواني»، في إشارة إلى أنه دون المستوى ومليء بالمواصفات السيئة والخاطئة.

وطبعا مع ارتفاع دخول تايوان وزيادة أصولها وودائعها من النقد الأجنبي الصعب، قررت أن تتبنى حملة واسعة جدا لتحسين سمعتها وتعاقدت مع شركة عالمية للعلاقات العامة، وبدأت موجة من الدعاية والإعلان تحت شعار «تايوان تعني التميز»، وسلطت الضوء على شركاتها الناجحة مثل «إيسر» في عالم الحاسب الشخصي، وشركة «HTC» في عالم الهاتف الجوال، وشركة «جاينت» للدراجات، وشركة «بن كيو» للشاشات، وشركة «يونيكش» للأدوات الرياضية، وغيرها طبعا، ولكن تايوان تدرك أن المشوار طويل وصعب، ولكنها تضع أمامها هدفا واضحا، وهو صناعة التغيير لأنها تعد ذلك الأمر تحديا للبقاء أمام منافسة محمومة ومجنونة ولا حدود لها.

العبرة في ذلك الأمر أن التغيير ممكن وإعادة صياغة الصورة الذهنية واردة جدا بوضع خطة وهدف متكاملين يعيش لأجلهما الجميع ويشارك فيهما الكل حتى يصبح كل فرد معنيا شخصيا بنجاحه، وهذا هو ضمان تحقيق التنمية المستديمة للأمم.

لا حاجة لإعادة اختراع العجلة في ظل وجود أمثلة حقيقية واقعية حصلت.