التلاعب الروسي بمصير الشعب السوري

TT

مناقشة ملف الأسلحة الكيماوية السورية في مجلس الأمن واعتراف النظام السوري بها وإعلانه استعداده لتسليمها، إذا وجد دولة مستعدة لاستقبالها (بعد إنكاره لها، ثم إنكاره وموسكو معه لاستخدامها في الغوطة)، قد تستغرق، في نظر الخبراء عدة أشهر إن لم يكن عدة سنين، لن تتوقف خلالها الحرب الأهلية في سوريا، وسيستمر سقوط عشرات الألوف من الضحايا، وتفريغ المدن والقرى ممن تبقى من أهاليها، وتدمير كل المؤسسات والبنى التحتية، وما دام النظام السوري قائما بفضل دعم موسكو وطهران له، وما دام، في المقابل، يوجد في واشنطن رئيس ينأى ببلده عن خوض أي حرب خارج حدود بلاده.

كل شيء يدل على أن السيناريو الوحيد هو استمرار القتال والتقاتل في سوريا سنة أخرى بل سنوات، مع استمرار مهزلة الحديث عن مؤتمر جنيف ومجلس الأمن والبند السابع والفيتو الروسي. ترى، هل قدر سوريا، «قلب العروبة النابض» وحاملة لواء وحدة الأمة العربية يوما ما، أن تفرغ من أبنائها وأن تتهدم مدنها وقراها أو أن تتفتت إلى دويلات، تحت أنظار الدول العربية والمجتمع الدولي العاجز عن إنقاذها من نفسها ومن تضارب المصالح الاستراتيجية والآنية للدول الكبرى في منطقة الشرق الأوسط؟

إن التاريخ الحديث لم يعرف حالة كالحالة السورية تمازجت في إشعال نار التقاتل فيها عوامل وعناصر محلية وإقليمية ودولية، بحيث لم يعد أحد يعرف ماذا ومن يغذي القتال وينفخ في جمره، ومن بيده الحل والربط. فبعد سنتين ونصف السنة من اندلاع أعمال العنف وفشل كل المحاولات والوساطات في وقف القتال أو التقريب بين الأطراف المتنازعة، بات العنوانان البارزان للمسألة السورية هما الأسلحة الكيماوية ومؤتمر «جنيف 2» الذي ليس من المؤكد انعقاده.

منطقيا، بل وواقعيا، لن يحسم النزاع في سوريا عسكريا أو بقوة السلاح بعد أن وصل إلى ما وصل إليه، وما دامت هناك دول كبرى وإقليمية تغذي الطرفين المتقاتلين.. وإن الدول الغربية الكبرى - وفي طليعتها الولايات المتحدة - تتردد بل وتحجم عن التدخل عسكريا، وإن الرئيس الروسي مغتبط بترقيص الولايات المتحدة على البساط السوري الحامي، ما دامت إسرائيل مرتاحة جدا إلى ما آلت إليه دولة «المقاومة والممانعة».

غير أن الحل السياسي يتطلب، قبل البدء فيه، بعض العناوين التي سيدور الحوار تحتها: من هم المتحاورون؟ ومن سيحكم سوريا في المرحلة الانتقالية؟ وما هو مصير النظام القائم ورئيسه وأركانه؟ ومن سيمثل المعارضة والثوار؟ وأهم من كل ذلك وضوح موقف كل من الولايات المتحدة وروسيا الحقيقي مما يجري في سوريا وما ستؤول إليه الأمور بعد توقف القتال. ولا ننسى موقف الدول الإقليمية النافذة والمتدخلة مباشرة في الصراع. وربما أهم من هذا وذاك موقف إسرائيل الحقيقى من النظام السوري ومن الثائرين عليه.

في المرحلة الراهنة ولعدة أسابيع، وربما أشهر، سوف تقتصر أخبار سوريا على ملف الأسلحة الكيماوية. وسوف تواصل روسيا دعمها للنظام السوري ومساعدته على تجنب أي عقوبات دولية. كما ستواصل الدول الداعمة للثوار والمعارضين دعمها، ربما بأسلحة جديدة. أما الضربة العسكرية التي هددت بها واشنطن وطالب بها الثوار، فقد تراجع احتمال حصولها بعد تصدي موسكو ومعارضة الرأي العام الغربي لها. الأمر الذي حمل البعض على الاعتقاد بأن النظام السوري حقق مكسبا سياسيا أو انتصارا معنويا، لا سيما أن الرأي العام الغربي بات يتساءل عن «نوعية» النظام الذي سيقوم محل نظام الحكم الحالي، وهل سيكون في يد جماعات إسلامية متطرفة (تأكل قلوب البشر وتقطع رؤوس الأسرى بالسيف والسكين)، نشرت صور لها في وسائل الإعلام الغربية؟

أمام هذه الأبواب الموصدة في وجه المحللين العسكري والسياسي، اقترح البعض إرسال قوات عسكرية دولية إلى سوريا تفصل بين المتقاتلين، كما فعلت الدول العربية في الحرب الأهلية اللبنانية وكانت النتيجة ما نعرف جميعا. آخرون من المعارضة السورية اقترحوا ضرب المطارات وفرض حظر جوي على الأجواء السورية، وتسليح الثوار بأسلحة وصواريخ متطورة، كي تتمكن من الصمود وربما الانتصار. لكن هل تترك روسيا الولايات المتحدة والدول الغربية مطلقة اليدين في التدخل العسكري في سوريا؟.. كل شيء يدل حتى الآن على أن موسكو هي التي تقود أوركسترا التدخل الدولي في القضية السورية، وأن الدور الأميركي في الشرق الأوسط قد تراجع كثيرا، أو على الأقل لم يعد من أولويات واشنطن، وأن الدول العربية باتت تخشى على نفسها من تداعيات الحرب الأهلية في سوريا، أكثر من خشيتها على مصير الشعب السوري.

في مطلق الأحوال فإن تطورات المسألة السورية في الأسابيع الأخيرة أبرزت أربع حقائق بها: (1) إن الولايات المتحدة فقدت الكثير من صدقيتها ونفوذها ومهابتها في الشرق الأوسط. (2) إن روسيا عادت إلى الشرق الأوسط من الباب العريض. (3) إن الشعب السوري الثائر على نظام حكمه فقد الكثير من تعاطف الرأي العام العالمي والعربي بعد ما كتب ونشر في وسائل الإعلام من صور عن «أفعال» الجماعات الإسلامية الجهادية الفظيعة، سواء كانت حقيقية أم كان النظام وراء نشرها أو افتعالها. (4) إن القتال في سوريا مستمر، وإن المجتمع الدولي والدول العربية والدول الكبرى لم تجد حتى الآن حلا للمحنة السورية سوى القول بأنه حل سياسي عنوانه «جنيف 2»، وسوى اللجوء إلى مجلس الأمن المشلول بالفيتو الروسي.