خليلي يا وزير

TT

تقع بلدة «آركوي» الفرنسية لصق باريس، جنوبا، وهي توأم مدينة الخليل الفلسطينية، مع الفارق بينهما. فالخلايلة، الذين وصل عددهم إلى ربع مليون نسمة، يمكنهم أن يستضيفوا «الآركوية»، الذين لا يزيد عددهم على 20 ألفا، في واحدة من مزارع العنب الكثيرة لديهم.

في الأسبوع الماضي، كرمت بلدية «آركوي» وزير الثقافة الفلسطيني أنور أبو عيشة بمنحه لقب مواطن شرف فيها. وكان أبو عيشة قد سكن هذه الضاحية أثناء سنوات إقامته الطويلة في فرنسا، قبل أن يعود مع أسرته الصغيرة إلى الخليل ويعمل مدرسا لمادة القانون في جامعة القدس. لقد حصل الرجل على الدكتوراه في القانون المدني من «السوربون» لكنه اختار، في فترة من فترات حياته، أن يعمل سائقا لسيارة أجرة في باريس. وطوال أربع سنوات، كان يجد سلواه في تمشيط الشوارع وتبادل أحاديث عابرة مع بشر بيض وصفر وسمر وسود، وكأنه يستضيف العالم تحت سقف سيارته. كانت مهنة تؤمّن له لقمة العيش في بلد يضم من حملة شهادات الدكتوراه أكثر مما يوجد في العالم العربي من مطربات ومطربين.

حين شكل رئيس الوزراء الفلسطيني رامي الحمد الله حكومته الجديدة، خرج الخلايلة في مظاهرات عارمة يعترضون فيها على استبعاد أبنائهم من الوزارة. إن مدينتهم ذات وزن اقتصادي، وهي تشكل ثلث أراضي الضفة. ولاستدراك السهو، جيء بالدكتور أنور أبو عيشة ليتولى حقيبة الثقافة. وهي وزارة كانت قد أُلغيت، لاعتقاد بعضهم أنها من الترف. ليس معنى الكلام أنهم اخترعوا للوزير الجديد منصبا كيفما اتفق، ذلك أن تجاربه في الحياة ومعاشرة الأوروبيين تجعله يفهم في الثقافة وفي إدارة مؤسساتها أكثر ممن يدفنون رؤوسهم في الكتب، ثم يرفعونها ليساجلوا في نظريات ما بعد الحداثة.

كان أبو عيشة برفقة عصام السرطاوي، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية لدى الاشتراكية الدولية، حين جرى اغتيال هذا الأخير في البرتغال، عام 1983، لحضوره مؤتمرا يحضره شيمعون بيريس، وقضى السرطاوي، وكان نصيب رفيقه رصاصة في الساق. وقد تكون تلك الرصاصة حرمته من ممارسة الرياضة لكنها لم تمنعه من أن يصبح ممثلا للمجلس الفلسطيني للرياضة والشباب في أوروبا، وينجح في تعبئة الجهود لكي تنال اللجنة الأولمبية الفلسطينية اعترافا من اللجنة الدولية. وكان ذلك عملا يشبه زجّ فيل في خرم إبرة، بسبب تداعيات عملية ميونيخ الشهيرة، عام 1972. وبفضل تلك الخطوة، انفتح الباب أمام الفرق الرياضية في المخيمات وكسرت العزلة التي فرضها الاحتلال الإسرائيلي عليها. وفي ربيع 1982، خرج شباب فلسطين ليلعبوا كرة القدم مع فرق أوروبية وليرتفع علم بلادهم فيها، لأول مرة.

في حفل تكريمه في «آركوي»، تذكّر الكثيرون من أهالي البلدة سائق الأجرة ذا اللحية البيضاء والابتسامة الحيية. وكتبت إحدى الصحف أن سيرته تستحق أن تكون فيلما سينمائيا. كان يحكي لهم عن الخليل، المدينة التاريخية التي أقام فيها إبراهيم أبو الأنبياء، وصارت اليوم تسمى «الصين الفلسطينية»، ولديها معامل تنتج عشرات السلع من دون أن تهمل زراعة الزيتون والعنب. وإذا كان الباعة في بلدي يروجون للتين الحلو بنداء «وزيري يا تين»، فإنهم في فلسطين يصيحون: «خليلي يا عنب».

ليس أنور أبو عيشة أول عصفور من الشرق، أو الجنوب، تحتضنه باريس ثم تطلقه ليعود إلى العش الأول، وليرتقي مناصب الوزارة أو الرئاسة. هكذا فعلت مع التونسي بورقيبة، والسنغالي سنغور، والنيكاراغوي أورتيغا، والمصري فاروق حسني، واللبناني غسان سلامة، والجزائرية خالدة تومي، والعراقي عادل عبد المهدي، والتونسي المرزوقي، وغيرهم كثير. العبرة بما تعلموا وما قدموا ويقدمون.