المثقفون العرب والشارع.. اختلط الحابل بالنابل

TT

تبدو مفردة السياسة أكثر مفردة يجري تداولها في العالم العربي على مختلف المستويات والنخب، ومن الغريب أن المجتمعات العربية تؤمن بأن الثقافة لها أهلها، والدين له أهله، والرياضة لها أهلها، إلا أن الجميع يعتقد أنه يفهم في السياسة ويدرك أبعادها ومنطقها، فلا أحد دون غيره أهل للسياسة، تكمن المشكلة في عمقها عند المثقفين الذين لم يكتفوا بمناصرة فكرة السياسة للجميع، بل انجرفوا قبل الكل إلى المجال السياسي ومنطقه، في تخل كامل عن الفكرة الثقافية، إيمانا بعدم جدواها إلا بالسلطة السياسية، تأزمت المشكلة مع الثورات الأخيرة حتى أصبح الجميع يشعر بأنه قادر على إدارة سياسة الدولة وتوجيه السياسيين بمجرد تشكيل صفحة على المواقع الإلكترونية أو التظاهر على طرف الشارع.

التفرقة بين السياسي والسياسة، كما يذهب رولان بارت، هي مهمة ثقافية بامتياز، لكن المثقفين الذين تخلوا عن الانشغال بالثقافة وتطوير منطقها الأساسي في نقد كل الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية وغيرها، كيف يمكن أن يقوموا هم بالمهمة طالما انشغلوا بالأحداث السياسية مباشرة وتورطوا فيها بالدفاع عن الثورات بمنطلق اليقين الذي لا يعرف الشك. التورط في السياسة بمنطقها المختلف تماما عن المنطق الثقافي، هو الذي يحافظ على انفصاله عن المباشر واليومي ولا يعدم المشاركة فيه، منطق الثقافة هو نقد اليومي ومواجهته والكشف عن كل ظواهره سياسية اجتماعية أو اقتصادية، لا الانخراط المعيشي في هذه الظواهر والانفعال فيها كجزء ضعيف وهش منها.

السياسة بمنطقها لا يمكن أن تكون مشاعا للجميع، والفكرة التقليدية الشعبية بأن كل شيء سياسة، هي فكرة خاطئة، فالعمل في السياسة يقتل الفكر ويعطل اللغة النقدية ويملئ المثقف بالثقوب، السياسة تحول المثقف إلى سياسي فاشل، لأن دوره الحقيقي يكون دائما خارج الحقول العملية للسياسة، دور المثقف كفاعل ينعدم عندما يتحول إلى مجرد منفعل مباشر مع الأحداث اليومية المتسارعة، اللغة الثقافية هي لغة النقد والشك وعدم اليقين، وعندما يخوض المثقف السياسة سيتخلى عن لسانه النقدي وينخرط في لغة التلقين والثبات والتكرار والتحايل على المعنى والحقيقة، السياسي يصنع الحقيقة التي يريد، يقدم لغة تتناسب والصورة التي يرسمها، وظيفة المثقف هي مكاشفة تلك الحقائق في كل أشكالها، مكاشفة فكرية نقدية، مهمة المثقف هي المطاردة والحوار العميق والغوص في الأسباب وإعادة تفكيكها، لأن الوعي لا يتحقق بغير ذلك.

المثقف ليس ندا للسياسي، بل هو ناقده وكاشفه والفاعل فيه، بينما المثقفون العرب الذين يخوضون في السياسية أصبحوا تحت سلطة السياسي وتحت لغته وفكره، محكومين بمنطقه وبالصورة التي يملك أدواتها، المثقف العربي يحتاج إلى الحفاظ على انفصاله، لأنه فوق السياسي بلغته وقدرته على المكاشفة والبحث في الحقائق، الثقافة اشتغال على اللغة التي تحكم الجميع بما فيها لغة السياسي، ليس للمثقف أن يفقد دوره في توجيه السياسي والتأثير عليه بمنطقه، ليس للمثقف التخلي عن العمل على المعاني والأفكار وتأسيس لغة الحرية وفلسفة الحياة، فقط للانخراط في السياسة والانفعال بها والتقلب على ما تفرضه من مزاجات غاضبة ويائسة ومستفزة، للمثقف أن يستفز هو السياسي بلغته وبشكه وعدم يقينه، لا أن يواجهه بيقين آخر ويقابله بنضال آيديولوجي للانتصار عليه، الملعب ليس واحدا، السياسي يعيش في ظل الثقافة، ولا ينبغي للثقافة أن تتوسل السياسي للاعتراف بها كما يفعل المثقفون العرب، للثقافة أن تحافظ على موقعها فوق الجميع ورسم كل المجالات، لا الخضوع للمجالات والنزول إلى منطق الشارع أو منطق المؤسسة العسكرية أو المسجد، الثقافة لا تنزل إلى الشارع، المثقف يعيش الشارع ويجس نبضه وينفعل فيه، ليعود إلى حيث يعمل، ليعود إلى الثقافة بلغتها وأدواتها التي تفوق كل شيء وتحكم الجميع بمنطقها هي لا بمنطق الشوارع والمساجد والسياسيون.

لقد بالغ المثقفون العرب في الانفعال مع الشوارع في ثوراتها، كأنما كانوا جزءا هشا من الشارع لا سببا من أسباب حركته، لقد فقدوا بوصلتهم الثقافية في حالة نفسية واضحة للبحث عن الذات، أصبح المثقفون العرب في حالة تسول أمام السياسي والشعبي على حد واحد، تسول البقاء والاعتراف بالوجود، لقد كشفت الثورات العربية عن أزمة وجودية عن المثقفين، إنهم يبحثون عن الاعتراف بأنفسهم من الآخرين بدلا من فرض ثقافتهم هم على المكان والزمان وتجاوز الضائع فيه، لقد تاه المثقف مع الشارع كأنه جزء منه، كأنه لم يخرج يوما عنه.

لم يكن المثقفون العرب قادرين على توجيه الشارع عندما تحرك، لقد انجرفوا فيه، وأخذوا يرددون ما يردده الشعبي بأن السياسة للجميع، كأنهم لا يعون الفصل بين السياسي والسياسة، أو كأنهم لا يريدون للشارع أن يعي الفرق فيخسرون انجرافهم معه.