«نوبل» للسلام حجر عثرة في سبيل السلام

TT

يبدو أن علينا توخي الحذر من الآن فصاعدا من حائزي جائزة نوبل للسلام، فأمامنا ثلاث شخصيات نوبلية كشفت خلال عام واحد وجهها الحقيقي من مزاعم سعيها للسلام وإسهامها فعليا في ترسية الأمن العالمي: الرئيس الأميركي باراك أوباما، والمصري الدكتور محمد البرادعي، والناشطة اليمنية توكل كرمان.

بخلاف جوائز نوبل الأخرى، خاصة الطب والفيزياء والكيمياء، لا يمكن أن نفهم معايير الترشح أو الفوز بنوبل للسلام لأنها لا تخضع لمقياس واضح، والتدخل فيها أمر وارد من جماعات الضغط سواء اليسار أو اليمين، وإلا فكيف يمكن فهم فوز مناحيم بيغن رئيس الوزراء الإسرائيلي في الثمانينات ومؤسس منظمة اعترف في مذكراته بعنصريتها وعنفها، بجائزة تعنى بالسلام. ومهما يكن من سبب ربط هذا الوحش بجائزة سلام، فلا يمكن قبول حصوله عليها لأنه وقع على معاهدة قيل إنها للسلام وهي في حقيقتها عقد منفعة بين طرفين.

من اللافت أن هذه الجائزة تلبستها الشبهة تماما منذ سبتمبر (أيلول) 2001 مع بدء تشكل مشروع الشرق الأوسط الجديد، واستخدمت، رغم سموها، في سبيل تحقيق مصالح الدول العظمى، بحصول حلفائها عليها مكافأة لهم أو نكاية في خصومهم. وحتى لا يكون هذا الرأي تعزيزا لفوبيا المؤامرات، فلن أشكك في سبب حصولهم عليها، بل فيما آل إليه أصحاب هذه الجائزة من مواقف تتضاد مع مسعى السلام.

لنبدأ بالرئيس الأميركي باراك أوباما، الحاصل على جائزة نوبل للسلام قبل أن يكمل سنته الأولى في البيت الأبيض! أمر مثير حقا، فما عساه فعل خلال أشهر قليلة ليستحق جائزة مرموقة سوى أن تكون بمثابة الأغلال التي تكبل يديه ورجليه عن استخدام الحلول العسكرية لحسم النزاعات، فكلما دفعته الظروف السياسية إلى اتخاذ موقف حازم من أي قضية وقعت عيناه على شهادة نوبل المعلقة على جدار مكتبه فخرّ جالسا حتى لا يقال إن رجل السلام يرفع سلاحا.

أوباما لا يعد الطائرة من غير طيار (الدرون) سلاحا يتنافى مع مبدأ السلام إن استخدمه ضد جماعة إرهابية رفعت السلاح ضد الدولة في اليمن أو باكستان، لكنه اليوم يتخلى تماما عن دعم الدولة المصرية ضد إرهابيي سيناء حتى معنويا بالتصريحات المجانية. الإرهاب ليس له وجهان أسود وأبيض، فهو حالك السواد في كل الأمكنة والأزمنة، وهذا خطأ آخر يقع فيه أوباما لا يقل عن أخطائه الفادحة في الموضوع السوري، الذي وبكل أسف جعل العالم اليوم شاهدا على أسوأ مرحلة عنصرية منذ الحرب العالمية الثانية، تتمايز فيها قيمة الدماء بحسب الجنسية؛ دماء إسرائيلية معصومة، وأخرى سورية مستباحة. الدم السوري الذي سفكه الجزار بشار الأسد لم يحرك رجل السلام طوال عامين من المشاهد المريعة، ولكن الخوف من أن يستبدل بالرصاص الحي والمدفعية وصواريخ سكود سلاحا كيماويا أقلق الغرب على الأمن القومي الإسرائيلي. هذه عنصرية ما بعدها عنصرية من رجل لا تزال ذاكرته تحفظ قصصا من التمايز العرقي ضد السود ورثها أبا عن جد.

الشخصية الثانية للدكتور محمد البرادعي الذي تولى يوم الزحف، هجر مصر في عمق أزمة عاصفة بعد تداعيات ثورة 30 يونيو (حزيران) التي أبعدت «الإخوان» عن الحكم، أشاح بوجهه عنها ذاهبا إلى النمسا. وهو لم يكن حينها وزيرا أو محافظا أو رئيس حزب، بل نائبا للرئيس، أي الرجل الثاني في دولة كبرى أوشكت على الانهيار. من رحمة الله بمصر أن أوكل أمرها لرجال رهنوا حياتهم وتاريخهم لخدمتها رغم عظم التحديات. الهرب أسهل الأفعال للرجل وأصعبها، فهو لا يتطلب سوى الجري سريعا في الاتجاه المعاكس، ولكنه يكلف ثمنا غاليا؛ الثقة.

مصر كانت مهددة في سلمها، اعتصام «رابعة العدوية» الذي غضب البرادعي من فضه كان مدينة داخل مدينة، فيها حاكم ومجلس شورى، وحراسة مسلحة من جماعة الإخوان المسلمين، يحرسون المداخل ويقومون بتفتيش الداخل والخارج، وسوق لتوفير مستلزمات الاعتصام، ووزارة إعلام تدار من فوق منصة. هذه الجماعة يعرف البرادعي أنها لا ترعوي عن استخدام السلاح للثأر وتغيير الواقع بالقوة أو تعطيل مصالح سكان المنطقة، لكنه خرج مغاضبا لأن الاعتصام فُض بالقوة، ربما فات على القوات المسلحة أن تنثر على المسلحين في «رابعة» باقات من الزهور لتدفعهم لفك الاعتصام. في النهاية، خرج البرادعي مكروها من الجانبين؛ جماعة الإخوان تتهمه بالعمالة للغرب وتعيره بالعراق بأنه أحد الأسباب التي دفعت الولايات المتحدة إلى غزوه إبان إدارته لوكالة الطاقة الذرية، وفريق 30 يونيو يتهمونه بالخيانة الوطنية لأنه فر وقت الكر.

الشخصية الأخيرة هي الناشطة اليمنية توكل كرمان، وهي مثال صارخ على أن جائزة نوبل للسلام ألعوبة في يد جماعات الضغط. وإلا فكيف يمكن أن تتقاسم كرمان الجائزة مع الليبيرية ألين سيرليف أول امرأة تحكم دولة أفريقية التي ناضلت من أجل إحلال السلام في بلدها؟

المبادرة الخليجية التي حقنت الدماء اليمنية لم يكن لكرمان دور فيها، بل الأسوأ من ذلك أنها وقفت ضدها وأثارت حولها اللغط، وعندما جرى توقيع المبادرة بين الطرفين المتقاتلين وبحضور مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن جمال بن عمر لم تكن كرمان موجودة، أي أن لا أحد من أطراف النزاع، من هم ضدها أو معها، ولا حتى المبعوث الأممي، يعتقد أهمية وجودها. ثم أخيرا صرخت كرمان بأعلى صوتها في الـ«بي بي سي» قبل أيام تعلن انحيازها الكامل للإخوان المسلمين في مصر، ولكنها لم تنبس ببنت شفة عما يحصل في سيناء من حرب ضد الإرهاب.

جائزة نوبل للسلام تحتاج لتطهير نفسها من آثام الاختيارات المسيسة والنوايا المثيرة للجدل، وأن تضيف لسجل معاييرها شرط تعهد الحاصل عليها انتهاج المنهج الدافع لإحقاق السلم طوال حياته. إما ذلك أو علينا أن نتأهب من الآن لإمكانية ذهاب الجائزة هذا العام لمحمد البلتاجي القيادي الإخواني الذي ضغط زر العنف في سيناء.

[email protected]