الريموت لا يزال في جيبي!!

TT

في أحد مشاهد فيلم «اللمبي» قالت له أمه متأكد إن «ساندوتشك في شنطتك ومطوتك في جيبك»، وعندما أجابها نعم، قالت له: «على بركة الله انطلق للمدرسة».

أصبح علينا أن نتحسس جيوبنا بين الحين والآخر لنتأكد أن الريموت كنترول لا يزال يقظا، تشن بين الحين والآخر الفضائيات التي صارت هي المصدر الرئيسي لحالة الانفلات اللفظي زخات مكثفة من المسلسلات والبرامج التي يتباهى صناعها بأنهم يقدمون آخر صيحة في الإسفاف، هل نحمل «الميديا» تبعات المسؤولية كاملة، حيث تنقل الشاشة السلوك للشارع في اللحظة التي تستقي فيه مفرداتها من الشارع؟

استمعت مرة إلى الأديب الكبير الراحل د. يوسف إدريس كان يحكي أنه في شبابه تعلم أن يضع علبة السجائر في الشراب بعد أن شاهد محمود المليجي يفعل ذلك في أحد الأفلام، فأصبحت علبة سجائره منذ ذلك الحين لا تعرف سوى هذا الطريق.

قبل نحو ما يزيد على عشرين عاما أخرج أوليفر ستون فيلمه «ولدوا ليقتلوا» ينتقد فيها وسائل الإعلام وكيف أنها صدرت العنف للمجتمع فبات أكثر دموية، استند إلى دراسة أكدت زيادة ملحوظة في السنوات الأخيرة للجينات البشرية المحفزة للعنف.

العلاقة كانت ولا تزال تبادلية بين الشارع والشاشة، تنقل «الميديا» ما يجري في الشارع ثم تصدره للناس، وبعد إعادة تدوير البضاعة ترسل لنا مجددا هذا الكم من المفردات البذيئة التي تستخدم بعضها لأول مرة.

في كل لغات العالم تتوالد كلمات وتتغير الأطر الدلالية لبعضها من حقبة زمنية إلى أخرى، ويجب علينا أن نذكر أن الكلمة قبل أن يجري تداولها لا تأخذ ضوءا أخضر ولا تصريحا رسميا من جهات رسمية، ولكنها تنتزع حضورها عنوة في الحياة، وكل زمن يطرح أسلوبه، ولو تابعت لغة التخاطب عبر «النت» فستكتشف أن ما تسمعه في المسلسلات والأفلام هي كلمات مهذبة جدا بالقياس لما هو مستخدم بكثافة الآن في العالم الافتراضي.

ليس هذا تبريرا ولا دفاعا عنها، فهي في جزء كبير منها تجرحنا، ولكن علينا أن نذكر أن كلمات مثل «حضرتك» و«أفندم» و«بعد إذنك» و«لو سمحت» و«عفوا»، وغيرها، يبدو أن عمرها الافتراضي قد انتهى في قاموس التعامل اليومي، ومن لا يزال حريصا عليها صار في عرف هذا الزمن «أنتيكة»!

لو قلبت في صفحات الدراما فستكتشف أن أشهر عبارة أحدثت ضجة في العالم العربي ووصفت وقتها بالانفلات هي تلك التي أطلقتها فاتن حمامة في فيلم «الخيط الرفيع» في منتصف السبعينات «ابن...» التي نعتت بها محمود يس في حوار ساخن كان من المستحيل العثور على بديل لفظي آخر، إلا أن الذي حدث بعدها هو أن البعض طالب بالمعاملة بالمثل، ورأينا سيلا عارما من مشتقاتها تتسلل للأفلام.

لا ينجح عمل فني لأن به بذاءات أو مشاهد جريئة، الناس بطبعها تكره الإفراط، والحكمة تقول: «الفضيلة تقع بين رذيلتين الإفراط والتفريط»، وهكذا بقدر ما أرفض تلك الأعمال التي تبدو مهذبة لدرجة التعقيم فأنا أرفض أيضا الإسراف الذي يصل إلى حد الإسفاف، النوعان مرفوضان سواء تلك التي تغلف نفسها بغطاء من أوراق «السوليفان»، أو الأخرى التي تبدو وكأنها قد تخلصت تماما حتى من ورقة التوت.

لا نستطيع أن نعزل الشاشة عما نراه في الشارع، ولا أن ننكر أن الدراما أيضا أثرت في لغة الشارع.. إنهما وجهان لعملة واحدة، ولا أتصور أن ميثاق الشرف الإعلامي العربي الذي طال انتظارنا له من الممكن أن يواجه كل هذا الانفلات، ولكن عليك أن تتأكد قبل أن تفتح التلفزيون أن الريموت لا يزال مشهرا في جيبك!!