أميركا لم تعالج التهديد الحقيقي للإرهاب الاستراتيجي

TT

اجتمعت عدة اتجاهات قوية لتحدث تغييرا عميقا في الطريقة التي يعمل بها العالم؛ فقد سمحت التكنولوجيا للمجموعات التي لا تحدها دولة معينة بتنظيم وتجنيد وتمويل نفسها بطريقة لم يسبق لها مثيل. وإذا ما وضعنا هذا في الحسبان، إلى جانب الصعوبة البالغة في العثور على تلك المجموعات ومعاقبتها، فهذا يعني أن هذه المجموعات ستلعب دورا محوريا على الساحة العالمية، حيث يمكنها العمل من تلقاء أنفسها أو وكلاء لبلدان أخرى ترغب في الهروب من المسؤولية. وفي كلتا الحالتين، تمثل تلك المجموعات قوة لا يستهان بها.

وفي الوقت نفسه، فإن وجود مجموعة مختلفة من الاتجاهات التكنولوجية يعني أن أعدادا صغيرة من الناس يمكنهم الحصول على قوة مميتة بشكل لا يصدق. وعلى مر التاريخ، ساهمت التكنولوجيا في زيادة قوة وفتك الأسلحة، ففي البداية كانت الأسلحة البرونزية أفضل من تلك المصنوعة من الحجر؛ ثم جاء الصلب ليصبح أكثر قوة من البرونز، ثم جاءت البنادق بدلا من الأقواس... وهكذا. وكان كل جيل جديد من تكنولوجيا الأسلحة أكثر فتكا من سابقه. ومع ذلك، كانت هناك قاعدة عامة وثابتة تقول إن الأسلحة الأكثر فتكا تتطلب استثمارات وقواعد صناعية أكبر. وكان صنع السيف من البرونز يتطلب عمليات مثل التعدين والصهر والصب، في حين كان الصلب يتطلب أفرانا وتقنيات أحدث لتشكيل الأسلحة. وتأتي الأسلحة النووية في قمة منحنى هذه الأسلحة الفتاكة، حيث يمكن لجهاز واحد أن يدمر مدينة بأكملها، ولكن تكلفته أيضا تصل إلى تكلفة بناء مدينة كبيرة، وإن كان بناؤه أكثر صعوبة من بناء المدينة!

التقدم في فهم البيولوجيا يعني أنه، للمرة الأولى في تاريخ البشرية، ينقلب منحنى الفتك والتكلفة رأسا على عقب؛ فالأسلحة البيولوجية قد تكون خطيرة للغاية، لكنها قد تكون في الوقت ذاته رخيصة الإنتاج والنشر؛ ففي عالم تواجه فيه القوى العظمى السابقة أوقاتا عصيبة وتمتلك فيه دول مثل باكستان وكوريا الشمالية أسلحة نووية، تأتي السبيل الأخرى إلى الفتك الرخيص من خلال سرقة بسيطة، فيمكن لمجموعة إرهابية سرقة قنبلة نووية. وقد تستطيع مجموعة صغيرة أن تكون بقدرة تدمير قوة عظمى وقادرة على تنفيذ هجوم إرهابي استراتيجي قادر على قتل الملايين من الناس.

وهجوم بهذا الحجم يختلف بشكل جوهري عن التفجيرات الانتحارية الإرهابية النمطية التي تتطلب مستوى تكتيكيا عالي المستوى لقتل عشرات من الناس، حتى إن هجوم 11 سبتمبر (أيلول) 2001 الذي قتل الآلاف سيبدو شيئا لا يذكر بجانبه.

ورغم شناعته ستظل خسائر الإرهاب التقليدي، في الأرواح والممتلكات، محدودة، لكن هجوماً نووياً أو إرهابياً بيولوجياً واحداً قادر على حصد أرواح تفوق جميع من راحوا ضحية الهجمات الإرهابية السابقة مجتمعة، حيث يختلف التهديد الذي يشكله هذا النوع من الإرهاب الاستراتيجي اختلافا جذريا في كثير من النواحي عن الإرهاب التكتيكي.

يذكر أن مؤسستنا الدفاعية بنيت على مدى عقود للتعامل مع ما كان يعد لفترة طويلة التهديد الاستراتيجي الوحيد الذي تواجهه أمتنا: الصواريخ السوفياتية أو الصينية. لكنها بدأت في الآونة الأخيرة إعادة التجهيز للتعامل مع الهجمات الإرهابية التكتيكية، كتلك التي وقعت صباح يوم 11 سبتمبر 2001، لكن عملية الإصلاح غير مكتملة وغير متناسقة؛ فالدفاع الحقيقي يتطلب إعادة بناء قدراتنا العسكرية والاستخباراتية الشاملة. وحتى الآن، لم يلقَ الإرهاب الاستراتيجي اهتماما كافيا في وكالات الدفاع، ويبدو أن الجهود التي جرى تدشينها لمكافحة هذا التهديد الوجودي تعاني من التشرذم.

السيناريو الأكثر احتمالا هو أن الولايات المتحدة ستواصل انتهاج مسارها الحالي، ومعالجة بعض القضايا وتجاهل أخرى. وسيشن الإرهابيون هجومهم المقبل. وربما بشيء من الحظ، نتمكن من الكشف عنه في الوقت المناسب لمنع وقوع كارثة كبرى، ولكن من الممكن جدا أن يقع هجوم إرهابي استراتيجي في العقد المقبل أو نحو ذلك يحصد أرواح ما بين 100.000 إلى مليون أميركي. المؤكد أننا حينها سنكون جادين بشأن الإرهاب الاستراتيجي. أو يمكن أن نبدأ الآن.

* خدمة «واشنطن بوست»