المبشرون الاشتراكيون

TT

نعرف جيدا النشاط التبشيري للبعثات المسيحية الغربية إلى عالمنا. كنا نتهمها دائما بأنها رأس رمح للإمبريالية. بيد أن نشاطا مشابها جرى على نطاق فردي للتبشير بالفكر الاشتراكي والشيوعي لم يعبأ بتسجيله المؤرخون لضعفه وقلة تأثيره. كان من ذلك عدد من الشيوعيين الذين بعثهم ستالين لمصر ولم يتركوا أي أثر ملموس. فقد نظروا إليهم نظرة شك ولا سيما بعد أن اكتشفوا أنهم كانوا من اليهود. فشلوا وعادوا إلى روسيا حيث صفاهم ستالين في الخمسينات، ربما لأنهم نصحوه بتأييد تقسيم فلسطين وإقامة إسرائيل.

كان من الاشتراكيين البريطانيين المستر مكنزي الذي قصد بغداد وفتح فيها مكتبة في العشرينات، ربما اعتقادا منه بأن المعرفة خير وسيلة لنشر الاشتراكية. ولكن ما الفائدة وقد كانت كل مبيعاته بالإنجليزية. بيد أنني أتذكر أن المكتبة تحولت في الأربعينات والخمسينات إلى نقطة تجمع لليساريين العراقيين.

المشكلة هي أن جمهورنا الساذج كان ينظر إليهم بنفس الشكوك التي لصقت بالمبشرين الدينيين. أتذكر من ذلك أن صديقي الراحل هيكل رياض كان يعمل مع كيميائي آخر إنجليزي. وكان هذا يحث صديقي هيكل على معارضة النظام القائم. كان يكرر، لماذا لا تثورون على هذه الحكومة الرجعية الفاسدة؟ اعتقد هيكل أن هذا الرجل جاسوس يريد أن يوقعه في مأزق. فظل يرده ويقاومه. وفي إحدى الجلسات في أحد المقاهي فقد أعصابه ومسك بتلابيب الخبير الإنجليزي: «لماذا تحثني ضد الحكومة؟» وتأهب لمهاجمته لولا تدخل الآخرين. التقاني هيكل مساء وقص عليّ ما جرى. «جاسوس خبيث يريد أن يوقعني». قلت له: عزيزي هيكل تذكر أن بين الإنجليز أيضا ثوريين أغبياء مثلنا. وكان هذا ما اكتشفه بعد سنوات في لندن. كان الرجل عضوا في الأممية الرابعة لتروتسكي.

سعى الكثير من اليساريين الأوروبيين للعمل في الشرق أملا في نقل أفكارهم لنا ولكنهم لقوا دائما آذانا صماء. كان منهم أيضا صديقي إريك كيبن. كان من رجال المسرح ومخرجا في مسرح أليونتي اليساري. وجاء للتدريس في جامعة بغداد. أتذكر أنني حاولت أن أقدمه للعمل مع الفرق المسرحية بعد ثورة 1958. ولكن الزملاء أجابوا عليّ دائما: «تريدنا نتعامل مع واحد إنجليزي يتجسس علينا؟».

أذن صماء وأدمغة مقفلة. وحكايات وحكايات. وكلها تذكرني بما جرى لبعثة تبشيرية أميركية في منطقة الأهوار المتخلفة في جنوب العراق. أنفقوا على الفلاحين بسخاء وكسبوا عددا منهم. جاء الأسقف المسؤول عن البعثة لزيارة المنطقة ومشاهدة منجزات البعثة. فجمع المبشر الجماعة التي كسبها للدين المسيحي. راح يعزف على البيانو ترانيم من الكتاب المقدس ثم وقف يعظ ويخطب فيهم عن حياة السيد المسيح عليه السلام ومعجزاته وكيف مشى على الماء وأحيا رجلا ميتا. ما إن أكمل حكايته حتى ردد الحاضرون بصوت واحد: «اللهم صلِ على محمد وآل محمد»!