سوريا بين التاريخ والمستقبل!

TT

بموت عبد الحميد السراج منذ يومين في منفاه الاختياري بمصر تكون سوريا قد طوت صفحة دموية من تاريخها، الرجل الذي عرف بأنه كان أنموذجا للاستبداد والتسلط والجبروت وممارسة فنون التعذيب «لحماية النظام» تمكن في فترة الوحدة مع مصر أن يكون العدو الأول للسوريين.

كان رجل «عبد الناصر الأول» من الجانب السوري وكان عينيه وأذنيه، ولكن كل هذا الود والقرب لم يرق لعبد الحكيم عامر التوأم الروحي الحقيقي والأول والوحيد في نظر عبد الناصر، فأقصى السراج بعد أن كان الجندي المطيع لدرجة أنه «أذاب» أحد معارضيه في الأسيد بصورة متوحشة، ثم سجن لفترة في سجن المزة حتى تم تهريبه من السجن بواسطة من كمال جنبلاط إلى بيروت ثم إلى مصر حتى استقر بالقاهرة مع أسرته وبقي صندوقا أسود للأسرار بحماية الدولة في مصر.

وهو الرجل الذي خدم مصر إبان الجمهورية العربية المتحدة التي لم يطل استمرارها، ولكن عبد الحميد السراج كان مجرد «نزهة» طفولية لما سيأتي من بعده وهو الرجل الذي رحل وهناك العشرات من الأسئلة التي لا تزال دون جواب عن علاقته بحسني الزعيم صاحب الانقلاب العسكري الأول وعن علاقته بسامي الحناوي صاحب الانقلاب العسكري الثاني، ولكنه ولا شك كان صفحة مريبة ومثيرة للجدل وكريهة وغامضة.

لم يترك السراج مصر كثيرا وظل فيها مقيما، عمل في مجال التأمين، في مجالس إدارات أكثر من شركة في هذا المجال. كانت فترته تمهيدا لما هو أبشع وأسوأ وأكثر إجراما وهو الذي ظهر بعده على أيدي حزب البعث ومن بعده نظام الأسد أبا وابنا، المكرس للفساد والطائفية والاستبداد والتعذيب والقتل بشكل غير مسبوق.

وعلى عكس شعارات حزب البعث «الرسمية» التي كانت ترفع في كل مكان وتدعي العلمانية ومدنية الدولة لم تكن سوريا في حقيقة الأمر سوى حظيرة خاصة لحافظ الأسد ومن بعده ابنه، وهي الفكرة التي جرأت هذا النظام على أن يتغاضى عن التاريخ العظيم لدولة عريقة مثل سوريا ويختزل كل ذلك ويجيره لتصبح سوريا بين ليلة وضحاها «سوريا الأسد».

وحقيقة الأمر أن الأسد كان يكرس لنظام طائفي وعائلي متجذر وعميق وهو الذي جرأ بشار الأسد أن يقول في إحدى مقابلاته التلفزيونية للمذيعة المستضيفة وهو يعرفها على ابنه حافظ الطفل الصغير «بأنه رئيس سوريا القادم».

الطائفية البغيضة التي ظهرت في صفوف الثورة السورية اليوم في بعض الجيوب هي نتاج الطائفية التي أفرزها النظام. وكما تقول القاعدة الفيزيائية المعروفة والمعتمدة أن لكل فعل رد فعل أشد وأقوى وأعظم، لم يكن هناك وجود حقيقي للعلمانية والمدنية في دولة نظام الأسد، وإنما هي قشور هشة ولذلك ظهرت مجاميع تدعي الثورة لا علاقة لها بالنسيج السوري الحقيقي، مما يرجع أنها من صنيعة مخابرات الأسد صاحبة الباع الطويل في توظيف مجاميع من هذا النوع كما فعلت من قبل في العراق ولبنان والأردن. وكلها تحمل أسماء لا علاقة لها بسوريا وتاريخها، فلم تفرز الثورة كتائب «يوسف العظمة» أو «فارس الخوري» أو «سلطان الأطرش» أو «شكري القوتلي» الزعامات الحقيقية لسوريا والزعامات المشرفة التي احترمت تاريخ بلادها وأطياف مجتمعها وليس من حولها إلى حظيرة ودمر شعبها وأهانه.

سوريا تتحرر من كل شيء مهين في تاريخها العظيم، مات عبد الحميد السراج وسيموت بعده نظام الأسد ويرحل بلا عودة غير مأسوف عليه تاركا من ورائه تاريخا مشينا مليئا بالغدر وخيانة الأمانة والفتن والاستبداد. سوريا ستعيد كتابة تاريخها لأنها قررت صناعة مستقبلها.