أيام شبان غزة.. وزمن شباب الصومال

TT

أوضح أولا أنني لا أعني شبان غزة الآن، إنما أشير إلى جيلي، وأشرح لاحقا مبرر التوضيح. مساء الاثنين الماضي، اجتهد فرانك غاردنر، مراسل «بي بي سي» المختص بالشؤون الأمنية، فترجم لمشاهديه كلمة شباب إلى الإنكليزية بـ(LADS). كلمات عربية عدة وجدت طريقها لمعجم الإنكليزية منذ زمن بعيد، لكن أشهرها في العقود الثلاثة الأخيرة هي: الانتفاضة، القاعدة، الشباب. ما أبعد المسافة، وما أكبر الفرق، بين ما نتج عن تعرف غير العرب على الأولى (انتفاضة) من تعاطف مع شعب وتفهم لقضيته شملا العالم كله، تقريبا، وبين ما أنتج التعرف على الثانية (القاعدة) ووليدتها (الشباب) وبقية شقيقاتها بمختلف أسمائها، من رعب ونفور إزاء العرب، ثم الأسوأ والأخطر ما ولّد ذلك كله من توجس تجاه الإسلام والمسلمين صار ظاهرة معروفة وجد تعريفها طريقه أيضا لمعاجم اللغات كلها: إسلاموفوبيا.

لم يكن من الصعب أن يكسب شعب فلسطين احترام أغلب شعوب العالم، إذ يرى الناس بأعينهم كيف يتقدم شبان تحت العشرين من العمر الصفوف يواجهون بصدورهم رشاشات جنود احتلال إسرائيلي مدعوم بالمدرعات على الأرض، والهليكوبتر في الجو، وليس بين أكفهم سوى الحجر.

وما كان من المستغرب أن يوضع الإسلام موضع اتهام بعدما صعق العالم بفظاعة ما شاهد يوم الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001. ومع تواصل إرهاب «القاعدة» في مسلسل ضرب باسم الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، من إسبانيا وبريطانيا، إلى إندونيسيا وأستراليا، ومع التمكن من بناء قواعد لإرهاب «القاعدة» في كل ركن أمكنهم الوصول إليه، من شمال أفريقيا إلى العراق واليمن، وصولا إلى الصومال ليضرب منها في كينيا، مع متابعة العالم لهذا كله عبر ما توفره وسائل إعلام العصر من سرعة وصول الخبر، فالموظف – مثلا - في مقر عمله، حيثما هو، ينبهه هاتفه الذكي إلى أن مذبحة ما بدأت للتو في نيروبي، وأن المشتبه الأول هو تنظيم القاعدة، هل بعد ذلك كله يكون مثار عجب أن يوضع الإسلام والمسلمون موضع شبهة واتهام؟

من جهتها، بذلت حكومات الدول (الحكومة الكينية أحدث مثال) التي عانت مجتمعاتها ويلات إرهاب تنظيم القاعدة والفروع التابعة أو المبايعة له، قصارى جهدها في حث مواطنيها على التفريق بين الإسلام كدين، وأتباعه كبشر، وبين جرائم أولئك النفر من مرتكبي فظاعات القتل والتدمير باسم الدين الإسلامي. لكن ذلك الجهد، وهو ضروري ومقدر، بلا شك، لا يكفي، ثم إنه لا يلغي ضرورة الجهد الأهم، الأكبر حجما، والأكثر تأثيرا، وهو الجهد المطلوب من المسلمين أنفسهم، رسميا بواسطة الحكومات، ومجتمعيا عبر المؤسسات في المجالات كافة، وأولها الجامعات والمعاهد، بالإضافة إلى مراكز البحوث والدراسات، وفي المقدمة منها الجهات المعنية بعلوم الدين ومناهجه.

ذلك جهد يتعلق بالمواجهة مع فكر نجح في اختطاف عقول كثيرين من شباب المسلمين، لكنه وحده لم يعد يكفي أيضا. بوضوح واختصار، باتت هناك ضرورة لفعل إسلامي يحرر الإسلام من إرهاب تنظيم القاعدة وفروعه مرة واحدة وإلى الأبد. ما لم يحدث فعل المواجهة على الأرض حري بالمسلمين الغيارى على دينهم والمتألمين لما أصابه من أذى التشويه توقع أن يكون الآتي أفظع. رب سائل: ولكن كيف يتحقق ذلك الفعل؟ الإجابة ليست من اختصاص أهل الرأي. إنما من الواضح أن المواجهة الجارية مع بؤر إرهاب فروع تنظيم القاعدة في أكثر من بقعة يجب أن تتسع لتحول دون قدرة إرهابيي «القاعدة» على التوسع أكثر.

الحقيقة الصادمة تؤكد أن الإرهابيين لم يثبتوا فقط أنهم بلا قلوب تعقل وتبصر فترحم إنسانية بني آدم، بل لقد أثبتوا أيضا أنهم قادرون على الضرب حيثما يشاؤون، فور توفر الفرصة، أي أنها مسألة وقت، وما مجزرة مجمع «ويستغيت» في نيروبي، ومذبحة الكنيسة في بيشاور (الأحد الماضي)، سوى المثالين الأحدث زمنا. وفي السياق ذاته ليس يقل بشاعة ما يفعله بعضهم في سوريا من سفك للدماء وانتهاك للأعراض، باسم الدين الإسلامي.

من أين خرج هؤلاء الخوارج الجدد كي يتفوقوا في فظاعة الإجرام باسم الإسلام على من سبقهم زمنيا بقرون؟

سؤال يعيدني إلى شبان غزة الذين كنت منهم، والذين ليست تربطهم بحركة شباب الصومال أية صلة. حرصت على وضع مسافة بين جيلي وجيل شبان غزة الحالي، لأنني لا أستطيع من لندن ادعاء المعرفة الدقيقة بواقع غزة. قد تكون نسبة المتعاطفين من شبان غزة مع حركة شباب الصومال أعلى أو أقل مما أتوقع، لكنها موجودة، وهنا يكمن الفارق. أيام زمن غزتنا ما كان لنسبة كهذه أي وجود على الإطلاق. لم يكن ما اختلفنا بشأنه، وهو كثير، يبرر القتل تحت أي مسمى، وخصوصا الدين. كنا نتفق أو نتعارض، إنما أسوأ ما كان يؤدي إليه الجدل هو الصراخ بأعلى الأصوات، وإلقاء أوصاف قد تقلل من شأن الفهم، أو ترفع درجة الجهل، وأحيانا يثقل عيار تبادل التهم، فيزداد التوتر، خصوصا إذا اعتبر شبان الإخوان المسلمين، أو المتعاطفون معهم، أنه يجب «تحرير» قطاع غزة من «استعمار» جمال عبد الناصر، فتستفز أعصاب القوميين العرب (وكنت منهم) ونطالبهم بسحب اتهامهم، فيسحبونه معتذرين.

تلك غزة التي شهدت عمي إبراهيم، الشاب الرياضي، وشاهدته معها وأنا صبي، يلعب كرة السلة بملاعب جمعية الشبان المسيحيين بحي الرمال، من دون أن ينقص ذلك من إسلامه شيئا. وهي غزة التي عاش فيها جاري المسيحي إلياس بأمان، يرافقني إلى الجامع العمري، وأصحبه إلى كنيسة تجاور مسجدا صغيرا في حارة الزيتون، فنراجع معا أيام امتحانات نهاية العام بعض الدروس. وككل الناس، كانت أسرتي وأسرته تحرصان على الاحتفاء معا بكل المناسبات، من بهجة شهر رمضان، إلى زيارات أعياد الفطر، والأضحى، والفصح، وتبادل تهاني رأس السنة الميلادية والهجرية. أين شبان غزة تلك، باختلاف أطيافهم الفكرية (ومنهم منتمون إلى فكر جماعة الإخوان وأعضاء في جمعية شبانها المسلمين) من حركة شباب الصومال وما شابهها؟ لا شيء يجمعهما، ولذا يبقى السؤال الأهم: من أين أتى هؤلاء وإلى أين هم ماضون بالإسلام والمسلمين، وهل يجوز أن لا يوضع حد لجنون عبثهم وعبث إرهابهم الذي يكاد أن يتجاوز كل الحدود؟

[email protected]