حق التصويت

TT

الغربيون الذين راحوا ينادوننا باحترام حق التصويت لم ينالوا حقهم هذا في بلادهم بالشكل العشوائي الذي جرى عندنا. ففي فجر الحياة البرلمانية الذي انطلق في بريطانيا، أم الديمقراطيات، في القرن الثالث عشر، كان المجلس مقتصرا على اللوردات، ثم توسعوا فشملوا كل أصحاب الأملاك، أو بالأحرى، دافعي ضريبة الملك (Rate Payers). لم يتجاوز عدد الناخبين 3% من المجموع في عام 1780، وبقي الأمر كذلك حتى القرن التاسع عشر. فبعد الحروب النابليونية وما ضحى به العمال فيها، طالبوا بحق المشاركة في الانتخابات. عقدوا اجتماعا ومظاهرة في مدينة سان بيتر عام 1819، فبعثت الحكومة الجنرال ولنغتون، بطل معركة واترلو ضد نابليون، ليفرقهم، فجاء بمدافعه وخيالته وأطلق النار عليهم ثم هاجمتهم الخيالة بالسلاح الأبيض وقتلوا 11 مواطنا منهم في مذبحة خلدت في التاريخ البريطاني باسم مذبحة بيترلو، بعد أن سخر الظرفاء مما قام به ولنغتون فسموه بطل بيترلو بدلا من بطل واترلو.

عاد العمال في الثلاثينات للمطالبة بحق الانتخاب للجميع. نظموا حركة الشارتية (Chartist) فحرروا ميثاقا يتضمن حقهم في الاقتراع، وساروا به في مسيرة سلمية من الميدلاند لتقديمه للبرلمان بلندن، وتصدى لهم الجيش وفرقهم بالقوة كذلك، وبقي الموضوع سجالا طوال القرن التاسع عشر، ولم يحصل الإنجليز على حق التصويت العام للجميع إلا في 1918، وحصروا حق المرأة بمن تجاوزن سن الثلاثين (على اعتبارها قاصرة!).

جرى صراع مشابه في أميركا.. كان حق التصويت محصورا في الذكور والبيض وأصحاب الأملاك، وفي هذا الإطار لم يتمتع بهذا الحق غير 15% من مجموع سكان الولايات المتحدة. ظهرت حركة لتصحيح هذا الوضع، قادها توماس رود الذي نظم اجتماعا في عام 1841 حضره نحو ثلاثة آلاف مواطن، حيث حرر المجتمعون ميثاقا يتضمن حق التصويت للجميع. وعندما رفضته السلطات قاموا بهجوم مسلح على مقر الحكومة لفرضه عليها بالقوة. جاءوا بمدفعين سرقوهما من الجيش، ولكنهم لم يعرفوا كيف يستعملونهما، فجرت معركة فاشلة واعتقلت السلطات زعيمهم توماس رود وحكمت عليه بالسجن، وظل الأمر سجالا حتى عام 1888 عندما أبرمت آخر الولايات (ولاية رود آيلند) هذا الحق شريطة أن يكون الناخب متعلما قادرا على القراءة والكتابة، وبقي هذا الشرط قائما حتى سنة 1965، فقد كان يستهدف بصورة خاصة السود الذين كان الكثير منهم أميين.

الجدير بالملاحظة أن كل هذه الإصلاحات نحو توسيع حق الانتخاب للجميع في الغرب سارت جنبا إلى جنب مع توسع حركة التعليم وسن التعليم الإلزامي الذي حول عمليا سائر المواطنين إلى ناخبين متعلمين قادرين على تتبع مستجدات السياسة وبرامج الأحزاب السياسية ومنجزات السلطة.

الجدير بالملاحظة في كل هذا السرد، أن الديمقراطية والحياة البرلمانية اللتين نعجب بهما في الغرب لم تأتيا دفعة واحدة، وإنما عبر مراحل وتدرج مرتبط بالنمو الثقافي والتعليمي والتجارب.