كما بشار.. كذلك بوتين

TT

يردد أهل الحكم الروسي في معرض تعطيلهم اتخاذ خطوة حازمة في مجلس الأمن تضع حدا للمحنة السورية، مقولة إنهم لا يريدون تكرار الخطأ الليبي، كما أنهم يصرون على أن النظام السوري ليس هو من استعمل السلاح الكيماوي، وبالتالي فلا ضرورة لإدراج مسألة التخلص من هذا السلاح تحت الفصل السابع. ومثل هذا الموقف من جانب أهل الحكم الروسي يجيز للمتابع مثل حالي الافتراض بأن العقدة المصرية وليست الليبية هي التي تجعلهم لا يشاركون في تسوية من شأنها وضع حد للمحنة. كما يجيز للمتابع الافتراض بأن خبيرا روسيا من بين الخبراء الروس في الجيش السوري الموالي للنظام ربما هو من وضع إصبعه على أزرار الصاروخ الكيماوي الذي أباد بضع مئات من الأطفال والنساء وكبار السن، وأن الخشية من أن يعلن الرئيس بشار الأسد إذا لاحظ تغييرا في الموقف الروسي لجهة الاقتراب من الرأي الدولي، أن أحد خبراء الكيماوي الروس العاملين في الجيش السوري هو الذي ارتأى اعتماد هذا الفعل الشنيع. وفي حال حدث ذلك فإن الذي سيصيب كرملين فلاديمير بوتين هو تماما ما أصاب كرملين الترويكا الشهيرة (بريجنيف، كوسيغين، بودغورني) الذي بدأ يتفكك ثم ينهار الاتحاد السوفياتي وتتناثر جمهورياته نتيجة عوامل أكثرها إهانة أو فلنقل استهانة كان قرار السادات بإنهاء الوجود السوفياتي من خبراء وطيارين عاملين في مصر وإلغاء معاهدة الصداقة والتعاون التي كان هو من أبرمها مع نيكولاي بودغورني، الركن الثالث في الترويكا السوفياتية يوم الخميس 27 مايو (أيار) 1971 وتحدثت بنودها عن «صداقة لا تنفصم عراها بين كلا البلدين وشعبيهما»، وعن «مواصلة النضال ضد الإمبريالية»، وعن «تعاون الدولتين بصفة كونهما اشتراكيتين على توفير الظروف اللازمة لصيانة ومواصلة تطوير المكاسب الاجتماعية والاقتصادية لشعبيهما»، وعن «النضال من أجل السلام وتخفيف التوتر الدولي والتوصل إلى حظر السلاح النووي وغيره من أسلحة الدمار الشامل».

وعندما نفترض مسألة وجود إصبع روسي في التفجير الكيماوي في غوطة دمشق فإننا نستحضر من الذاكرة واقعة قريبة الشبه وتتلخص في أن الرئيس أنور السادات تعمد ومن قبل أن يبرم المعاهدة ثم يلغيها، أو أنه أبرمها لكي يلغيها، الكشف عن سر أزعج القيادة السوفياتية ويتمثل في قوله، إن الرئيس عبد الناصر عندما طلب في سنتيه الأخيرتين من القادة السوفيات صواريخ ذات تأثير في المواجهة خلال حرب الاستنزاف طلب أيضا أن يجري إرسال خبراء لتشغيلها في انتظار أن يتدرب المصريون على استعمالها وأن السوفيات لبوا الطلب وجاء الخبراء وقتل منهم ستة في دهشور. وقد كهرب الكشف عن هذا السر العلاقات، الأمر الذي جعل السادات يطلب من وسائل الإعلام صحفا وإذاعات و«وكالة أنباء الشرق الأوسط» الرسمية، إلغاء هذه الفقرة من خطابه الذي ألقاه في مدينة طنطا. وفي ضوء هذه الواقعة فإن الخشية من أن ينكشف دور الأصبع الروسي في التفجير الكيماوي (بافتراض حدوث هذا الدور) كما انكشاف دور الخبراء السوفيات في استعمال الصواريخ في مصر هي التي تجعل الموقف الروسي يعلو ويهبط، يتراجع ثم يتقدم، يتعهد ثم يتملص، وتجعل في خط مواز رئيس الدبلوماسية الروسية لافروف يكاد أحيانا كأنه ورئيس الدبلوماسية الأميركية كيري شريكان في موقف واحد، ثم ما يلبث لافروف أن يتخلى عن ضحكته العريضة واحتضانه للوزير الأميركي.

بالإضافة إلى الخشية من تداعيات على صعيد السمعة قد تنشأ نتيجة احتمال أن تكون هنالك إصبع روسية في المجزرة الكيماوية في الغوطة، هنالك الخشية من فقدان روسيا بوتين أموالا طائلة هي أثمان الكم الهائل من أنواع السلاح باعته من نظام بشار، وخصوصا أن أحدا لن يساعد هذا النظام في حال بقائه على تسديد الديون الروسية، ذلك أن المساعدة في الماضي وبالذات من السعودية وبعض دول الخليج ومن جزائر بومدين كانت تتم بغرض تعزيز القدرة العسكرية السورية لمواجهة إسرائيل. أما وقد باتت المواجهة من جانب النظام للمنتفضين عليه وباتت تشمل تدمير أحياء ومؤسسات فإن أيا من دول الاقتدار العربي لن تساعد، وبذلك فإن الديون الروسية ستذهب مع الريح، بل إن كرملين بوتين لن يكرر ما فعله عندما زار الرئيس بشار موسكو في الأسبوع الأخير من شهر يناير (كانون الثاني) 2005 وكان زمنذاك في السنة الخامسة حاكما (تسلم الرئاسة عام 2000)، حيث إن بوتين الذي كان هو الآخر بات رئيسا في العام نفسه (26 مارس/ آذار 2000) أراد كما فعلت «الترويكا» السوفياتية مع السادات على أثر وفاة عبد الناصر عندما ألزمته بمعاهدة، أن يفعل أمرا موجبا مع بشار مع اختلاف الأسلوب الذي كان في شكل معالجة لمسألة الديون الروسية على سوريا، وكانت في حدود 14.5 مليار دولار أُسقط مليار دولار ونصف المليار ليصبح المبلغ وفق كلام وزير المالية السوري زمنذاك محمد الحسين 13.400 مليار وجرى التوصل إلى مبلغ للتسوية بقيمة 3.616 مليار دولار يجري تسديد مبلغ مليار دولار ونصف المليار تقسيطا على عشر سنين وبواقع 20 قسطا متساويا وبفائدة قدرها 4 في المائة على أن تدفع الفوائد بالليرة السورية وبسعر صرف قدره 11.21 ليرة سوريا للدولار.

هذا التساهل في مسألة الديون شكل خدمة متبادلة: خدمة للرئيس بشار من فلاديمير بوتين الذي أورثه السلطة الأعلى يلتسين خاطف الرئاسة من غورباتشوف الأحق بها. وخدمة للرئيس بوتين من بشار الأسد الذي فرضت وفاة والده ومن قبل ذلك مقتل شقيقه باسل أن يكون هو الرئيس. وكما أن ترئيس يلتسين لصديقه بوتين كان من أجل أن لا يفتح هذا الصديق ملفات عهد رئيس حفلت سنواته بالإدمان والمواقف المحرجة والفساد داخل أجهزة الدولة، فإن الحرص على أن يكون الدكتور بشار هو الرئيس كي لا يأتي من يفتح ملفات ثلاثين سنة من الحكم الذي انتفض عليه نصف الشعب السوري وانشق من جيشه النظامي ثلث هذا الجيش (على نحو تقديرات متنوعة) ويتواصل للسنة الثالثة على التوالي مسلسل تتوزع حلقاته على ما هو مفجع عسكريا وما هو مخجل سياسيا. ويتقاسم الخجل بالذات رموز متنوعي الأغراض والمشارب، عربا وإقليميين ودوليين. أعان الله الأمة التي أرادها الله خير أمة، لكن بعض قادتها على أقسى درجات العقوق بها وإهانة تراثها الصالح.