التسوية مع كامو

TT

عام 1957 عاد ألبير كامو من رحلة إلى السويد، حيث التقى صحافيا جزائريا شابا أجرى معه مقابلة نشرت في «الموند». بعث يومها برسالة تصحيحية إلى الصحيفة، جاء فيها: «لم أقل إن حكوماتنا ارتكبت أخطاء بسيطة في التعامل مع المسألة الجزائرية، بل العكس تماما. إنني أريد أن أقول أيضا، في ما يتعلق بذلك الشاب الجزائري الذي طرح الأسئلة عليّ، إنني أشعر بأنني أقرب إليه من كثير من الفرنسيين الذين يتحدثون عن المأساة الجزائرية، من دون أن يعرفوا عنها شيئا. كان يعرف عما يتحدث. وكانت تبدو على وجهه علامات الأسى واليأس أكثر من أمارات الكره. إنني أقاسمه ذلك الحزن. إن وجهه هو وجه وطني».

في مئويته، لا يزال السؤال مطروحا في فرنسا وفي الجزائر معا: هل خان كامو وطنه من أجل لغته؟ الشاعر البرتغالي فرناندو بيساوا يقول: «لغتي هي وطني». وقسطنطين كفافي اعتُبر شاعر اليونان الحديث مع أنه عاش ومات في الإسكندرية، لأنه كتب باليونانية.

توقع مؤيدو الثورة، فرنسيين وجزائريين، موقفا أكثر صلابة من كامو، كمثل موقف جان بول سارتر وبقية رجال النخبة. بل توقعوا موقفا أكثر وضوحا من حامل «نوبل» الذي عاش وولد في الجزائر لأبوين فرنسيين فقيرين. غير أن كامو، الذي فقد والده صغيرا في معركة المارن، لم يكن قادرا على الانتماء إلى العنف، حتى في سبيل الحرية.

أعتقد أن أكثر ما لخص هوية كامو كان رسالته إلى «الموند» الواردة في كتاب جديد بعنوان «مقالات جزائرية». مع السنين خفت الحدة الجزائرية حياله، وازداد عدد الكتّاب الجزائريين الذين أرادوا اعتباره واحدا منهم. لكنني أعتقد أنه سوف يبقى الرجل ذا الهويتين. هذه ظاهرة عميقة لا تنحصر في كامو. كبار كتّاب آيرلندا - الذين كانوا أيضا من كبار كتّاب العالم - واجهوا ذلك الانفصام، مع تفاوت أعماقه.

حاول أمين معلوف التعبير عن هذه الثنائية أكثر من غيره، عندما رأى نفسه في لغة لا علاقة لها بجذوره. وهناك العشرات من الكتّاب الجزائريين الذين لا يزالون حتى الآن يعبرون عن مشاعرهم القومية بلغة المستعمر ذات زمن.

ألم يكن «مكسبا» للجزائر أن تربح انتساب كامو؟ لا. لم يكن شيء ليتغير. أحيانا تكون اللغة هي الوطن، كما قال بيساوا بشاعريته الفائقة الشفافية، وأحيانا تكون مجرد وسيلة. كتب إدوارد سعيد كل قومياته بالإنجليزية، وظلت فلسطين، التي لم يعرفها، هي وطنه. واعتبر «ف. س. نايبول» أحد كتّاب الإنجليزية المعاصرين، لكن يشار إليه دوما كهندي من الكاريبي.

اللاتينيون لم يعيشوا هذه التجربة. عاشوا في المنفى لكنهم كتبوا بالإسبانية، وفي طليعتهم اثنان من حملة نوبل، غارسيا ماركيز وفارغاس يوسا. كان محرجا موقف الأدباء والسياسيين الجزائريين من كامو، وكنت أعتقد أنهم ظلموه في حماسهم الوطني. لكن في ذكرى مرور مائة عام على ولادته تكاد الأمور تسوى من تلقاء نفسها: فرنسي كان الجزائر مادته الأدبية.