إيران تتغير.. أم تناور؟

TT

إن أردت أن تكون موضوعيا إلى حد بعيد، فسوف تقف أمام الحراك الإيراني الأخير متسائلا، هل هو حراك يؤدي إلى تغيير في التوجهات السياسية الإيرانية بشكل شبه جذري تجاه الداخل والخارج، أم هو حراك تكتيكي لامتصاص ما تراكم من سوءات قامت بها الإدارة الإيرانية تحت قيادة أحمدي نجاد وفريقه إبان السنوات الثماني الماضية، أساءت كثيرا لصورة إيران في الخارج وعقدت المشهد الداخلي إلى حد الأزمة.

أمام ما يكتنف المشهد الإيراني من ضبابية لا توجد إجابات جاهزة لتلك الأسئلة الصعبة. نبدأ بالاحتفال من قِبل الإعلام الغربي بالحدث؛ انتخاب حسن روحاني، فقد أفردت مجلة الـ«فورن افيرز» (المجلة الأكثر تأثيرا) في عددها الأخير، دراسة مطولة حول مرشد الثورة السيد علي خامنئي، أفاضت بمناقبه الشخصية من دون أن تتجاوز موقعه المؤثر في النظام الإيراني القائم، فهو عاشق للأدب العالمي، ولم يكن يعرف عن احتجاز الرهائن الأميركيين، كما أنه معجب من جانب آخر بأفكار سيد قطب التي تؤكد جملة المؤثرات المحافظة في اجتهاداته السياسية. كما أفردت صحف أخرى حديثا مطولا عن السيد حسن روحاني نفسه وفريقه المعتدل. مجمل الحديث أن هناك احتمالا في تغيير مسار النظام الإيراني في التكتيك، ولكن ليس في الاستراتيجية، أي أن هناك مرونة تتطلبها المعطيات الإيرانية الداخلية. أميل لهذا التفسير لأسباب متعددة.

السبب الأول أن (كل السياسات محلية) بمعنى أن التغيير المزمع في التكتيك، وقد شهدنا منه الكثير على مستوى التصريحات، دافعه الأساس هو الوضع الإيراني الداخلي، الاقتصادي أولا وثانيا مستوى الحريات التي تدنت بعد الانتخابات الثانية لأحمدي نجاد عام 2009، القصد هو ترطيب الموقف الداخلي. لقد زاد التضخم إلى انفلات غير مسبوق، حتى أن بعض الاقتصاديين يرون أن التومان الإيراني لا يتوقع أحد قيمته في الغد، على أثر ذلك تدهورت الخدمات الأساسية في البلاد، وأصبح من الصعب استيراد سلع معمرة أو شبه معمرة أو حتى استهلاكية من الخارج، كما أن الثغرات التي فتحت في جدار الحصار الدولي بدأ المجتمع الدولي في تضييقها. أمام كل ذلك التدهور الاقتصادي، الاجتماعي السياسي، لا بد من عمل ما، كان هو السماح لتيار (إصلاحي منضبط) للوصول إلى السلطة، لتفادي الأسوأ، أي ثورة شارعية تتمثل ثورات الشوارع العربية في السنوات الأخيرة، كما أن الإصلاح يمكن به إنقاذ إيران من الانقسام الداخلي الذي سببته سياسة نجاد المتهورة وغير العقلانية. فالجهد إذن مبذول الآن إما لإلقاء الحصار الدولي أو توسيع ثغراته ما أمكن، لإنقاذ الجبهة الداخلية من التصدع الحقيقي المدمر، خاصة أن خامنئي قد أشار إلى أسباب انهيار الاتحاد السوفياتي على أنها الفقر، الاستبداد، الفساد والصراع الاثني، وقد يكون شيء من ذلك قد نبت في البر الإيراني في السنوات الثماني الماضية.

السبب الثاني الذي يوحي بتبني تكتيك تغيير المسار وليس استراتيجية تغيير المسيرة هو القول المبني على مقولة (من الغباء فعل الشيء ذاته مرتين وبنفس الطريقة وتوقع نتيجة أخرى) لقد وصل (الإصلاحيون) إلى الحكم، آخر فترة السيد هاشمي رفسنجاني الثانية ثم فترتي السيد محمد خاتمي، ولأن الأخير شرع هو وفريقه في الانفتاح (المعقول) مع الجيران أولا ثم مع بعض العالم، سرعان ما شعرت القوى الإيرانية المحافظة والأكثر تأثيرا، أن هناك خطرا يهددها، وشاعت فكرة في ذلك الوقت، خاصة في نهايات فترة خاتمي، تقول بالوقوف أمام (تعدد السيادات) على أنها تصيب (الثورة) في الصميم وتعرضها للفشل. إدارة روحاني الجديدة تعيد سيناريو خاتمي تقريبا بنفس الخطوات، وهي تعلم أن هناك (حدودا) للسباحة في الفضاء الإقليمي والعالمي يملك تحديدها المرشد، فحبل المناورة يتحكم في طوله المرشد ومتى اعتقد أن الحبل قد طال وجب تقصيره، تحت شعار (منع تعدد السيادات)، فالإصلاحات الإيرانية تبدأ لتتوقف، وتنحسر كي تعود من جديد، في مد وجزر، إلا أن عمقها البحري هو في يد القائد المرشد الموكول إليه حفظ بقاء النظام.

السبب الثالث أن هناك مجموعة من المصالح الاستراتيجية التي تحققت لإيران الثورية في الإقليم والعالم، من العراق إلى سوريا إلى لبنان إلى بعض دول الخليج وإلى بعض اليمن بل وحتى بعض أفريقيا جنوب الصحراء، وأميركا اللاتينية، تلك المصالح لا يمكن التفريط فيها بسهولة من قبل القوى المستفيدة، خاصة أن تكلفتها السياسية ليست باهظة، وفائدتها بينة. هذه المصالح أصبح لها قواعد اجتماعية اقتصادية في بنية الطبقة الاجتماعية الجديدة في إيران، وهي تخالف الملالي المحافظين والعسكر المهيمنين على الصناعات العسكرية، يجد المرشد (الولي) صعوبة كبيرة في لجم هذا التيار، وقد ظهر علنا في الأسابيع الأخيرة، أنه كلما تفوه روحاني بكلام إصلاحي، جاء من خلفه شخصية عسكرية، تقول تقريبا عكس ما يقول. من الصعب تغيير قواعد اللعبة في وسط سير اللعبة، من هنا حيرة إدارة السيد روحاني، حيث لا تعرف من أي مكان تطلق عليها النيران الصديقة.

السبب الرابع ترى إدارة روحاني أن التكلفة السياسية الآن لتقديم بعض التنازلات من أجل تفكيك الحصار والحصول على اعتراف دولي بأن ما هو قائم في إيران دائم، لن يقوم بتحديه أحد، كما فعلت بريطانيا والولايات المتحدة، أيام مصدق أو أول سني الثورة، وهو هاجس كثيرين في إيران، ومع أخذ بعض الامتيازات من الغرب، مثل التطبيع الكامل وإطلاق اليد في الإقليم بما لا يضر المصالح الغربية، أي تقسيم المنافع يمكن تقديم بعض التنازلات الإيرانية. وهي تكلفة يبدو أن الإدارة الأميركية الحالية جاهزة لدفع ثمنها، حيث إنها من جهة تواجه مصاعب اقتصادية، ومن جهة أخرى في تراجع أمام مصالح الدب الروسي الذي تعتمد إيران عليه وعلى الصين أيضا.

لقد انفصلت القراءة السياسية عن مهنة التكهن والعرافة وتفسير الأحلام.. أصبحت تعتمد على الوقائع المتاحة وأيضا سلوك سابق للاعبين في الساحة. اللاعبون هم الولايات المتحدة التي انسحبت من العراق، ولم تمانع أن تتوسع المصالح الإيرانية فيه، كما أنها انحسرت، ومعها الغرب، في الموضوع السوري إلى مهمة واحدة (تدمير أسلحة الكيماوي السوري) التي قتلت آلافا من المواطنين العزل، من دون النظر إلى قتل أكثر من مائة ألف مواطن أيضا عزل وتدمير البنية الحضرية والريفية لسوريا. الثاني هي إيران التي تتقدم إلى (الإصلاح) ثم تتراجع إلى (المحافظة)، لأن طريق الإصلاح يعني تغييرا قد يطيح في النهاية بالنظام نفسه!

نصل الآن إلى زبدة الموضوع، خطاب السيد حسن روحاني في الأمم المتحدة، خطاب تصالحي، عكس خطاب خامنئي نفسه، في أول وآخر زيارة له للولايات المتحدة عام 1987. إلا أن التوجه التصالحي يسعى إلى تحقيق نفس الأهداف بطرق مختلفة. ماذا عن الخليج بشكل عام، الذي قال عنه المرشد أكثر من مرة وصاحب الولاية إنه تقريبا الحديقة الأمامية لإيران بما تمثله دوله من ثروات وما تنوء به من ثغرات، هنا يجب التحذير من ذاكرة السمكة، فعدم التأهب للغفلة قد يوقع الإقليم في مكان القسمة خاصة إن خلت مائدة المفاوضات الإيرانية الأميركية المرتقبة من تصور سياسي استراتيجي خليجي حصيف.

آخر الكلام:

اعتراف السيد أوباما في الأمم المتحدة حول أحداث مصر لافت، فهو يرى أن السيد محمد مرسي رئيس منتخب ولكنه فاشل في إدارة الدولة، بما يعني أن صناديق الانتخاب ليست كل شيء. الحصافة السياسية مقدمة على عدد الأصوات!