النظرية النسبية والإجرام

TT

سأصطف بجانب الشاعر البغدادي ابن نباتة السعدي في قوله:

من لم يمت بالسيف مات بغيره

تعددت الأسباب والموت واحد

لأنها ثقافة تفترض أقصى درجات الشجاعة في المحارب الذي لا تشغله تفاصيل موته عن الهدف منه، أما في السياسة فكل التفاصيل على البال.

إن كنا سننظر بنسبية لأحداث العنف في المنطقة العربية، فعلينا أن نستبعد أسباب الموت ومصدره، وننظر للنتيجة النهائية التي تغير الواقع فعليا على الأرض؛ عدد القتلى، حجم التشريد، والزمن الذي استغرقه العنف. إنها عملية رياضية تساعد في انجلاء السحب عن المصدر الأكبر للعنف، حتى يمكن تحييده وفضحه على الملأ.

عندما نتحدث عن إسرائيل كعدو للأمة العربي، فإننا عادة ما نصفه بالعدو تاريخي، أي أن عمر العداوة طويل، وبالتالي تأثير الزمن قائم. في أهم المواجهات العربية الإسرائيلية يمكن حصر القتلى بحسب إحصائيات الأمم المتحدة بأنها في الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 كانت حوالي ألفي فلسطيني خلال ست سنوات من عمر الانتفاضة. وخلفت الانتفاضة الثانية في عام 2000 نحو 4500 قتيل مع خمس سنوات من المواجهات. وفي الحرب على غزة عام 2008 قتل من الفلسطينيين 1200 إنسان. ويمكن إضافة المذابح، كالتي نفذت على سكان مخيم صبرا وشاتيلا الفلسطيني باعتبارها إحدى أبشع مذابح التاريخ الإنساني، رغم أنها ليست ذنبا إسرائيليا خالصا، بل بفعل لبناني سوري مشترك، هذه المذبحة أسفرت عن 3000 قتيل بحسب الإحصاءات الدولية.

أما صدام حسين، فقام بحملة الأنفال الشهيرة على شمال العراق مستهدفاً الكرد بإبادة جماعية لحقتها إعدامات بلا محاكمات قتل فيها أكثر من 150 ألفا من الكرد. ولا يمكن إغفال استخدامه السلاح الكيماوي على قرية حلبجة، وقتله ما يقارب خمسة آلاف مدني. أما مذبحة الأسد الأب في حماة في عام 1986 فقدمت 40 ألف قتيل خلال شهر.

هذا استعراض سريع ومختصر للمآسي الراسخة في الذهن العربي التي نفذت داخل الإقليم الواحد، أضف إلى هذا المآسي التي ارتكبت في إقليم دارفور السوداني على يد ميليشيات «الجنجاويد» المدعومة من الحكومة، وقطاع الطرق الذين بطشوا بسكان الإقليم، وارتكبوا جرائم مريعة خلفت آلاف القتلى، وأكثر من مليوني مشرد خلال ست سنوات.

واليوم يمتحن النظام السوداني صبر السودانيين برفع الدعم عن المحروقات، مما أدى إلى مضاعفة سعر الوقود والغاز، بعدما اطمأن أن السودان لم يتأثر، رغم المحاولات، بتداعيات الربيع العربي. وهذا سيؤدي إلى إنهاك المواطن المنهك أصلا من ضعف مورده المالي والبطالة وسوء الإدارة.

النظام الحالي في السودان جاء بانقلاب عسكري، وأزاح حلفاءه وضيق على معارضيه لينفرد بالسلطة طوال 25 عاما، وعندما تعرض رئيسه لمحاولة انقلاب فاشلة في بداية تسعينات القرن الماضي، أعدم 28 ضابطا في نهار رمضان في حدث غير مسبوق في السودان الحديث.

وقد أضر النظام بالسودان محليا ودوليا، حيث أصدرت المحكمة الجنائية الدولية بحق البشير مذكرة اعتقال لتسببه في جرائم ضد الإنسانية. لقد تحول السودان من دولة عربية مؤثرة في الأطراف العربية والأفريقية، ووسيط في حل المنازعات، إلى بؤرة للتآمر ضد العرب مع إيران وحزب الله، وكانت قبل ذلك مهوى أفئدة الإرهابيين من كارلوس الذي احتضنه نظام البشير وحسن الترابي ثم باعه للفرنسيين، إلى بن لادن، ومرتكبي محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك. ثم استفز المجتمع الدولي حينما هم بطرد المنظمات الإغاثية، التي كانت سببا في إبقاء مئات الألوف من المدنيين على قيد الحياة بتقديم الماء النظيف والغذاء والدواء لهم بعد نزوحهم هاربين من حرب دارفور.

هذا الجبروت تحول سكون تام عندما قصف الطيران الإسرائيلي العام الماضي مجمع اليرموك للصناعات العسكرية، فظهر وزير الدفاع السوداني يبرر عدم ملاحظتهم اختراق أجوائهم بمبررات واهية، لا يقبلها العقل.

الشارع العربي لا يجد ميلاً للحديث عن الشأن السوداني لأن الثقافة الحقوقية متواضعة لديه، والإعلام منشغل بالدعاية ضد إسرائيل. بالتأكيد أن الضبابية التي تهيمن على العقلية العربية تجاه الأحداث، مردها أننا لا نختلف كثيراً عن الرئيس الأميركي أوباما الذي اتهمته في مقالي السابق بالعنصرية، فنحن كذلك عنصريون حينما ننظر إلى الدم الفلسطيني بأنه مقدس، وهو كذلك، ونغفل عن مئات الألوف من الضحايا المغلوبين على أمرهم، فقط لأن عدوهم ليس إسرائيل.

لنعلم إذن أن استخدام السلاح الكيماوي، الذي ينظر إليه العالم بأنه وصمة العار والخطيئة التي لا تغتفر، لم يجرؤ أحد في العصر الحديث على استخدامه إلا دولتين عربيتين هما العراق وسوريا تحت حكم حزب البعث، الذي جرّ خلفه ملايين العرب طائعين مذعنين مؤمنين بعقيدته.

أعود لأقول إنه لا ضرر من أن ننظر للأحداث العربية بعيون ألبرت أنشتاين، صاحب النظرية النسبية، لربما كان للفيزياء حكم أقل انحيازا من الإعلام، وأكثر عدلا من السياسة.

[email protected]