الغرب غرب...

TT

مقولة الكاتب والشاعر البريطاني، رديارد كيبلنغ: «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا»، اكتست المزيد من المصداقية في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين... لا على خلفية حضارية، كما قصدها كيبلنغ في القرن التاسع عشر، ولكن على خلفية سياسية توحي بأن الغرب يتقوقع على نفسه، بينما الشرق ينفتح على الخارج بـ«ربيع» متأخر في زمانه كما يبدو حتى الآن.

هل من مثال أفضل على هذا التباين في المنحى العام للغرب والشرق من موقف الغرب، مجتمعا، من موضوع «التدخل» في سوريا ردا على استعمال النظام السلاح الكيماوي، المحظور منه قبل أن يكون محظورا دوليا، في قصف غوطة دمشق؟

لا الشارع الغربي - أوروبيا كان أم أميركيا - ولا مؤسساته التمثيلية البرلمانية، ولا استطلاعات الرأي العام عكست حماسا يذكر لنصرة ثورة المطالبين بالتطلعات الديمقراطية التي يدين بها الغرب. على العكس من ذلك، رفض مجلس العموم البريطاني اقتراح حكومته للتدخل، بينما أنقذ اقتراح موسكو بوضع السلاح الكيماوي السوري تحت رقابة دولية الرئيس الأميركي، باراك أوباما، من مواجهة المصير نفسه في الكونغرس، كما وفر على الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند عناء إقناع الشارع الفرنسي بإجراء استطلاع أظهرت تعليقات معظم وسائل الإعلام الفرنسية ضعف الحماس له، خصوصا أنه يتخذ بـ«أمر أميركي». وفي ألمانيا، جاء النصر الانتخابي الساحق الذي حققه حزب المستشارة أنجيلا ميركل ليعزز التأييد الشعبي لموقفها الرافض منذ البداية لأي تدخل عسكري في سوريا.

وإذا كان هذا التيار الانعزالي بحاجة إلى دعامة معنوية أيضا، فقد وفرها له تأييد الكنائس الغربية، بمختلف تلاوينها، لخيار تجنب التورط العسكري في الخارج.

على خلفية إرث أفغانستان والعراق وتداعياته السياسية، يبدو مناخ «المزاج الانعزالي» السائد حاليا في الغربين الأميركي والبريطاني مبررا إلى حد كبير. ومع أن هذا المزاج يتقاطع مع عوامل أخرى داخلية - بينها متاعب الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الاقتصادية، وفي الولايات المتحدة تحديدا مع «تقليد» تصدي نواب «الحزب الجمهوري» لسياسات أوباما كائنة ما كانت - تتحمل الولايات المتحدة، والجمهوريون تحديدا، القسط الأوفر من مسؤولية هذا «المزاج» الناجم أصلا عن قابلية الرئيسين الجمهوريين السابقين، بوش الأب وبوش الابن، المفرطة للتدخل عسكريا في الخارج.

بمنظور مبدئي، قد يصح تصوير رفض العواصم الغربية دعوات التدخل في سوريا على أنه انتصار للديمقراطية. ولكن، وبالمنظور نفسه، يصح القول أيضا إن الديمقراطية السورية (المنشودة) تدفع ضريبة الديمقراطية الغربية المرتدة على مغامراتها العسكرية في أفغانستان والعراق وحتى ليبيا.

إلا أن العبرة المستقبلية من سيادة المناخ الانعزالي في الغرب تتعدى موقف الغرب من سوريا وثورتها إلى موقعه السياسي والاستراتيجي على خريطة العالم.

على الصعيد السياسي، لن يغيب عن نظر ديكتاتوريي المرحلة أن مناخ الغرب يسمح لهم بمواصلة الاستبداد بشعوبهم وقمع أي تيار يطالب بالحريات الديمقراطية – شريطة ألا يلجأوا إلى السلاح الكيماوي.

وعلى الصعيد الاستراتيجي، لن يغفل نادي أوتوقراطيات القرن الحادي والعشرين (روسيا والصين وإيران) عن تفسير مسارعة الولايات المتحدة إلى تلقف مبادرة موسكو حيال سوريا على أنها بادرة خلل لصالح روسيا في ميزان القوى القائم حاليا مع الغرب «الديمقراطي». غير خاف أن الهدف الاستراتيجي من مبادرة موسكو السورية يتعدى الاهتمام بمصير الرئيس السوري بشار الأسد إلى تحقيق شكل من أشكال «التكافؤ» الدبلوماسي مع الولايات المتحدة على الساحة الدولية. وهكذا، بعد عقد واحد على الاجتياح الأميركي – البريطاني للعراق تعود روسيا بزخم إلى الشرق الأوسط من بوابته المشرعة حاليا على «التدخل» الخارجي، أي سوريا.

واقع روسيا الاقتصادي والاستراتيجي لا يسمح لها، بعد، بلعب دور الدولة البديل للنفوذ الأميركي في الشرق الأوسط. إلا أنه من الصعب، في المقابل، التغاضي عما كشفته الأزمة السورية من انحسار للنفوذ الأميركي في المنطقة.