التصحيح الخطأ

TT

أثار الباحث جان داية في «النهار» الأسبوع الماضي مسألة أدبية غاية في الأهمية: عندما يعيد أي مؤلِّف، جمع كتاباته القديمة، هل يحق له أن يصحِّحها أو أن يُضيف إليها أو يحذف منها؟ كان يتحدث عن نموذج أمامه هو كتاب «الوطن المستحيل» للدكتور جوزيف صايغ، الذي أعاد جمع ما كَتبَ وما كُتب عنه والمقابلات التي أُجريت معه، على مدى نصف قرن، وعدَّل فيها جميعا. طبعا للأفضل. ولكن هل الأفضل هنا، قانوني، أم جائر؟

التقيت الدكتور جوزيف صايغ في مقهى «دولابيه» في باريس، عام 1961. وكنت ولا أزال معجبا بنثره، وبحيويته الفكرية وحماسه الثقافي. وقد أشرت إلى «الوطن المستحيل» في هذه الزاوية لدى صدوره قبل أشهر، لكن لم يخطر لي ما خطر للباحث والمؤرخ الأستاذ داية. بل إنني لم ألحظ ذلك. لأن المقارنة جهد ضخم هي أيضا.

بين تقديري لجهد الأستاذ داية ومشاعري القديمة للدكتور صايغ، وجدت نفسي أمام مثل هذا السؤال للمرة الأولى. أنا، مع موقف الباحث. ما كتبناه قبل 50 عاما لا نصحِّحه اليوم. فإما هو صالح لإعادة النشر، وإما الأفضل أن يُنسى. أما التقليم أو التجميل أو إعادة الصياغة فخروج على الأمانة، خصوصا إذا كان النص مرفقا أو مذيَّلا بتاريخ النشر الأول.

الدكتور صايغ ليس أول كاتب ينظر إلى الخلف ويجد فارقا بين الشباب والنضوج. لكن الإنسان مراحل. والذي يصحح الآن يخون مشاعر مراحله الأولى. هناك كمٌّ كبير مما كتبتُ لا أجده صالحا للنشر أو حتى للتذكُّر. أفضِّل ببساطة، أن أنساه. لكن ما أعيد نشره يُعاد كما هو. واجهتُ هذه المسألة مع «دار النهار» التي تجمع كل عامين «مقال الأربعاء» الذي يصدر في «النهار» نفسها كل أسبوع. أُسأل عادةً من مدير التحرير إن كان هناك ما أريد حذفه، فربما تغيرت مواقفي السياسية من بعض الناس، والجواب دائما لا.

طلبت حذف جملة واحدة على مدى الأجزاء الأربعة التي صدرت حتى الآن. فقد بدأت إحدى الافتتاحيات بسطر يقول: «اتصل عمرو موسى..».. وندمت بعد صدور المقال. وشعرت أن في ذلك مباهاة فارغة كالتي لا أكف عن نقدها. وحرصت على ألا يُعاد نشر مثل هذا الدلع السمج، في الكتاب.

لقد اتصل عمرو موسى، في خلاصة الأمر، لأنه رجل مؤدب ودبلوماسي عريق، وليس لأنه رأى بي الرجل الوحيد الذي يجب الاتصال به. الصداقة لأن تُحمى ويُحرص عليها، وليست للإشهار. وإذا رأى الصحافي أن يذكر كل من رأى لتحولت زاويته إلى خبر اجتماعي. اللهم احمني.