العلاقات الأميركية - الإيرانية.. بين السر والعلانية.. عبر 35 عاما

TT

لم نفاجأ بالتطور الجديد في العلاقات الإيرانية - الأميركية: ليس لأننا كتبنا - في هذا المكان - وقبل ذهاب الشيخ روحاني إلى نيويورك، مقالا بعنوان (ماذا يجري بين الغرب وإيران رغم الظاهر الخادع؟)، توقعنا فيه (توافقا نسبيا) بين إيران والغرب بوجه عام وبينها وبين أميركا بوجه خاص.. وليس لأننا مقتنعون بأن ليس في العلاقات الدولية (يقينيات قطعية)، أو أن العلاقات الدولية لا تعدو أن تكون (ناديا لعشاق) متقلبي العواطف والأمزجة: كل يوم أو كل ساعة على حال، وبين انخفاض وارتفاع، والتهاب وبرود!

إنما السبب الرئيس في عدم تفاجئنا هو:

أولا: أنه رغم الصخب العالي، والكلام المفرط عن (الشفافية)، فإن العالم غارق فيما يمكن تسميته (الباطنية السياسية)، أي إن ما يظهره كثير من الساسة غير ما يبطنونه.

ثانيا: أن خطوط الاتصال (غير المرئية) لم تنقطع بين الولايات المتحدة وإيران منذ قامت الثورة الإيرانية وحتى يوم الناس هذا.. صحيح أنه قد بدا في أحيان كثيرة أن العلاقة بين البلدين قد تكهربت، وأن حربا باردة نشبت بينهما، وأن هذه الحرب الباردة مقدمة تمهيدية لحرب ساخنة!

مثلا: في ذروة (أزمة الرهائن): رهائن السفارة الأميركية في طهران، بدا الوضع كأنه صدام حتمي بين الطرفين، ولا سيما أن الدستور الأميركي يجيز للرئيس الأميركي إعلان الحرب على أي دولة تعتدي على أميركي أو أميركيين، ولهذا السبب دخلت أميركا الحربين العالميتين: الأولى والثانية (بغض النظر عن صحة الأسباب وصدقها).

في ذروة أزمة الرهائن: كان الباطن، أي ما تحت القشرة والسطح، يشهد مفاوضات أميركية على أعلى مستوى.

في سبتمبر (أيلول) عام 1980، عقد وارين كريستوفر - نائب وزير الخارجية في حكومة جيمي كارتر - اجتماعا – في ألمانيا - مع صادق طبطبائي (أحد رجال آية الله الخميني المقربين). واتفق الاثنان على تحديد موعد الإفراج عن الرهائن بشرط أن توافق واشنطن على إمداد إيران بأسلحة قيمتها 400 مليون دولار.

بلغت هذه المعلومات فريق ريغان - بوش المتأهب لخوض انتخابات معركة الرئاسة، فطار صواب هذا الفريق بمقتضى تقديره: أن الإفراج عن الرهائن في هذا الوقت سيرجح حظوظ الديمقراطيين بالفوز بمنصب الرئاسة.. وهذه كارثة بالنسبة لهم!

فماذا حدث.

تفتق ذهن الجمهوريين عن مبادرة – تجاه إيران - خلاصتها (تأجيل) الإفراج عن الرهائن إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية.

بناء على هذه المبادرة، ترتبت سلسلة من الاجتماعات (السرية) بين شخصيات إيرانية كبيرة ومجموعة من فريق ريغان - بوش.. ولقد ضم الفريق الإيراني: آية الله محمد بهشتي، وحجة الإسلام على رفسنجاني، ومحسن رفيق دوست قائد الحرس الثوري.. وضم الفريق الجمهوري الأميركي: جورج بوش الأب (فقد أصر رفسنجاني على حضور بوش كضمانة قوية للاتفاق المزمع).. وويليام كيسي مدير حملة ريغان - بوش الانتخابية الذي أصبح مدير الاستخبارات المركزية.. وريتشارد آلن.. وفريد أكيل.. ولورانس سيلبرمان.. وعقد الاجتماع في فندق لانفان بلازا بباريس.

وخلال هذا الاجتماع، اتفق المجتمعون بطريقة سرية - طبعا - على تأجيل الإفراج عن الرهائن حتى الانتهاء من معركة الانتخابات الرئاسية.

وبالفعل: لم تفرج إيران عن الرهائن إلا بعد فوز فريق ريغان - بوش في الانتخابات في نوفمبر (تشرين الثاني) 1980.

وكانت ساعة التنفيذ هي (الكلمة الأخيرة) من القسم الرئاسي الذي أداه ريغان.. وكان الجندي المكلف إعطاء إشارة الإقلاع لطائرة الرهائن يمسك بإشارة الإقلاع بيد، وبجهاز اتصال لاسلكي باليد الأخرى.

هذه المعلومات والتفاصيل انتظمها كتاب (مفاجأة أكتوبر) الذي ألفته باربارا هوليغز: العضو البارز في طاقم البيت الأبيض.

ولعل الناس لم ينسوا صخب الإعلام السياسي الإيراني ضد الحربين اللتين شنتهما أميركا ضد أفغانستان والعراق. ولكن على الرغم من هذا الصخب، كان هناك تنسيق أو تفاهم بين أميركا وإيران على ضرب النظامين القائمين - يومئذ - في أفغانستان والعراق: نظام صدام حسين، ونظام طالبان.. وبدا الأمر وكأن الأميركان يحققون - بهذا الغزو - مصلحة عليا لإيران:

1 - فالبلدان - أفغانستان والعراق - يجاوران إيران.

2 - لإيران مصلحة (أكبر) من المصلحة الأميركية في سقوط النظامين المعادين لها في البلدين.. فقد كانت تعادي نظام صدام حسين لأسباب كثيرة، منها سبب حرب الثماني سنوات المدمرة بين العراق وإيران.. ولقد احتضنت طهران منذ وقت مبكر المجلس الإسلامي الأعلى للثورة الإسلامية في العراق.

وكانت – في نفس الوقت - تعادي نظام طالبان، لأنها تعده نظاما (مذهبيا متعصبا) لا يمكن التعايش معه.. لهذه الاعتبارات، كان لأميركا وإيران مصلحة مشتركة في زوال هذين النظامين.

لهذا كله: لم نفاجأ بـ(التبدل المثير) في العلاقات الإيرانية - الأميركية.

ولكن، بقيت أسئلة: لا بد من الجواب عنها:

1 - السؤال الأول: ألا يدخل ما تقدم في سياق (نظرية المؤامرة)؟

الجواب: إن ما تقدم ليس سوى حقائق ومعلومات ووقائع.. وليس من حق أحد أن يغالط في الحقائق والوقائع بحجة أنه من (المترفعين) عن الاقتناع بنظرية المؤامرة.. ولطالما قلنا: إن الغلو بإطلاق في المؤامرة إنما هو خدمة لها!! وإن الغلو في نفيها بإطلاق هو جزء منها!!

2 - السؤال الثاني: لقد قاطع الغرب - بقيادة أميركا – إيران وحاصرها اقتصاديا سنوات كثيرة.. فهل كل هذا الحصار مجرد تمثيل، في حين أن الشعب الإيراني قد ضج منه بعد أن ذاق مرارته؟

والجواب: إن الحصار حقيقة واقعة لا مجرد تمثيل، ولكنه حصار لتعديل سلوك النظام، وليس من أجل اجتثاثه وإسقاطه كما يتوهم كثيرون.. وتعديل السلوك يتطلب ضغطا عموديا في أحيان كثيرة.. وثمة تصريحات لرؤساء ومسؤولين أميركيين تؤكد أن الولايات المتحدة لا تبيّت النية لاجتثاث النظام الإيراني.. قال الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش: ((إني لا أعتزم مهاجمة إيران قبل أن أغادر البيت الأبيض، وإن ما يتردد عكس ذلك مجرد شائعات مسلية ومضحكة)).. وقالت كوندوليزا رايس: ((ليس لدينا نية للمزيد من التصعيد الاستراتيجي ضد إيران)).. وقال الرئيس باراك أوباما: ((نحن لا نسعى إلى إسقاط النظام الإيراني)).

فهل أثمر الحصار الاقتصادي على إيران أثره في تعديل سلوك النظام الإيراني؟

وهل التجاوب الشعبي الإيراني مع توجهات روحاني: ورقة في يد القيادة الإيرانية لمزيد من التعديل والتجميل؟ من حيث تفسير التعديل بأنه مطلب شعبي!!

مهما يكن من أمر، فإن ما يهمنا هو: أن يكون السلوك الإيراني الخارجي عاقلا وحكيما في التعامل مع الإقليم، كما هو نزوعه الجديد مع المحيط العالمي. بل إن الصاحب بالجنب أولى بذلك وأحرى.

ثم إنه من المهم: ألا تتكرر التجربة الشاهنشاهية في الطموح إلى (دور الوكيل الإقليمي) للغرب في المنطقة. فنحن نريد سياسة غربية وأميركية في المنطقة بـ(دون وكلاء إقليميين): لا إيران ولا إسرائيل ولا غيرهما.