الحاجة إلى استنهاض قوى العقل والتنوير

TT

لم نعد نجد خلال السنوات الأخيرة إلا مساهمات باهتة غير منتظمة لكبار المثقفين والمفكرين البحرينيين في الصحافة المحلية، باستثناء حالات نادرة، من أمثال الدكتور محمد جابر الأنصاري والدكتور باقر النجار والدكتور إبراهيم غلوم.. من الذين يحرصون على أن تكون لهم إطلالة منتظمة من خلال الصحافة المحلية والعربية على الشأن العام الوطني والعربي، وخصوصا على الهموم التي ترتبط بحياة الناس وتطلعاتهم وإحباطاتهم.

ولا نقصد هنا الإنتاج الإبداعي أو الأكاديمي التخصصي لهؤلاء المثقفين، والذي يبقى حبيس الفضاء الأكاديمي، وإنما نتحدث عن الإسهام في الجدل السياسي والفكري الذي يشغل الشأن العام من خلال الصحافة المحلية أو العربية، سعيا للتنوير والتأثير في الرأي العام، خاصة في مرحلة التحول التي تمر بها مجتمعاتنا على الصعيد السياسي تحديدا.

ولا شك أن غياب أصوات مثل هؤلاء المثقفين عن هذا الحراك الاجتماعي - السياسي اليومي يلقي بظلاله السلبية على الساحة الوطنية والعربية معا، خصوصا في ظل علو أصوات المهرجين والفقراء في الفكر والرؤية، وفي ظل تعالي «فكر» الصراخ والصياح والتحريض.

أسماء كبيرة ومعروفة تتوارى اليوم عن الساحة، أو يبتعدون عن الصحافة أو تبتعد عنهم الصحافة أو تتجاهلهم، ولا تسعى إلى استقطابهم، ولا تتيح لهم فرصة المشاركة لأسباب مختلفة، مما أدى إلى حرمان المجتمع من التأثير الفاعل للفكر المستنير، ومن خبرات كبيرة ومهمة، في وقت نحتاج فيه إلى كل صوت عاقل وإلى كل فكر جاد، للحد من تأثير النزعات الطائفية، والنزعات المغلقة والمتطرفة التي تؤسس للانقسام والتناحر الاجتماعي والتطاحن الطائفي.

إننا اليوم في أمس الحاجة لطاقة للدور الفاعل للقوى والعناصر الحية والمستنيرة في المجتمع، وفي مقدمتها النخبة الأكاديمية والعلمية والثقافية، خاصة في ظل الاتساع الهائل والمخيف لمساحات الكتابات الصحافية الهزيلة وغير المسؤولة والتي انفلتت من عقالها، بعيد ما بات يسمى بثورات الربيع العربي، والتي أسهمت خلال السنوات القليلة الماضية بشكل سلبي في التأسيس لثقافة الصراخ والتهييج بدلا من ثقافة التحليل، ولثقافة التخوين بدلا من ثقافة التنوير، ولمنهج التعصب بدلا من منهج التسامح. فإذا كان غياب بعض هذه الأسماء عن ساحة التأثير والتنوير عائدا إلى امتناع أو «تعفف» أو ترفع أكاديمي أو اكتئاب ثقافي دعا إلى النأي بالنفس عن الحراك، فإنه من غير المقبول في مرحلة يصل فيها إلى سدة الحكم أو البرلمان وجوه فقيرة فكرا وتكوينا ووعيا، لتقرر نيابة عن الجمهور مصير البلاد والعباد، وسط حالة من الاستقطاب الطائفي، ومن غير المقبول أن يتوارى المثقفون عن الأنظار أو ينأوا بأنفسهم عن «الورطة» السياسية والفكرية، مفضلين الاحتماء بالأبراج العاجية المنعزلة والابتعاد عن هموم الناس، في حين أن المطلوب منهم في هذا الظرف تحديدا أن يكونوا أكثر اشتباكا مع هذا الواقع للإسهام في توضيح الرؤية ومقاومة «البؤس الفكري» الذي يعود بنا إلى الخلف مئات السنين تحت عنوان «العودة إلى الجذور»، فالوضع الطبيعي يتمثل بالضرورة في أن يبلور المثقف رؤية حول بنية المجتمع وتحولاته وأن يسارع إلى إيصالها إلى عموم الناس من خلال التواصل الأسرع تأثيرا عبر مختلف الوسائل وخصوصا أجهزة الإعلام ومنها الصحافة.

نعم، قد تكون ثمة محاذير لانخراط المفكر والأكاديمي في تجربة الكتابة الصحافية اليومية والتي قد تقود إلى التبسيط وحتى الإسفاف في بعض الأحيان، ولكن لنتذكر أيضا أن أفضل الدراسات والمقالات التي تنشرها الصحف الكبرى الرصينة في الغرب (مثل «لوموند ديبلوماتيك») هي لكبار المفكرين والفلاسفة الذين يسهمون من خلال الصحافة في بناء وتوجيه الرأي العام بصورة رصينة وعميقة، وذلك لأن للمثقف دورا كبيرا في التأثير على واقع الناس ومستقبلهم وخياراتهم، ولا ينبغي أن يقتصر هذا الدور على الجمع والاستقصاء والاستقاء للمعلومات فحسب، بل يتوجب أن يطمح بأن يكون للمثقف دور ريادي في إصلاح الواقع الذي يعايشه، لأن وظيفته الحيوية تتمثل في نشر أفكاره لأن النخبة من المفكرين والفلاسفة والمثقفين هم الذين صنعوا التحولات الكبرى في التاريخ، ونادوا بها وأعدوا خطاباتها وخططها.

وللأسف، وعلى العكس من ذلك، يبدو العديد من مثقفينا منكفئين، وظهرت بعض مواقفهم المتخاذلة وتوارت أصواتهم وشعاراتهم القديمة ونسفوا العديد من قناعاتهم التي كانوا ينادون بها طوال نضالهم الثقافي والفكري وفضلوا الجلوس على الربوة.

إن على المثقف أن يتحمل دفع ضريبة اقترابه من الناس بالكتابة المتواصلة لهم، وإلا بقي تمثالا في متحف أكاديمي أو واجهة رسمية لامعة، وهما حالتان مرفوضتان، فإذا لم تصل الأفكار إلى القوى والكتل الفاعلة في واقع المجتمع، فلن يكون هنالك تطور، بل وسيظل المفكرون والمثقفون كما هم أفرادا منعزلين غير فاعلين ومتعالين عن الناس والمجتمع.

أما إذا كانت الصحافة هي التي تبتعد عن هؤلاء المثقفين أو تتجاهلهم لأسباب مختلفة، فنقول إلى متى تبقى هذه القطيعة مع الفكر الجاد الملامس لهموم الناس؟ وإلى متى سيبقى كثير من الناس في بلادنا كتلا بلهاء تصفق للكتابة الهزيلة والتحريضية التي تخاطب المشاعر والغرائز بدلا من مخاطبتها للعقول وللوعي والقيم؟ وإلى متى تظل الساحة مفتوحة للسجال الاستعراضي وللصراخ البائس؟

إن هذه الدعوة لا تنطلق من التصور بأن المفكرين يغيرون التاريخ، لأنه تصور غارق في تعظيم الذات، ولكنها دعوة إلى استنهاض قوى العقل والاستنارة في مواجهة قوى التهييج والتحريض والخواء، لأن التاريخ يتغير عندما تتحول الأفكار إلى قوى مجتمعية وسياسية فاعلة، وهذا أمر يقتضي أن يتصدى لتوجيه الرأي العام الطاقات العالمة والمستنيرة.

* كاتب وإعلامي بحريني