امرأة.. وأي امرأة!

TT

عرضت الصحف العالمية السيرة الذاتية للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بعد فوزها الثالث بالمستشارية في أحد أهم البلدان الأوروبية، وصاحب اليد العليا في منظومة الاتحاد الأوروبي.

ذكرت التقارير مراحل دخول ميركل المعترك السياسي منذ كانت مراهقة تستمع إلى تراتيل والدها القسيس، وتتعلم منه مهارة مداراة الناس والإنصات والهدوء واللباقة، وحتى أصبحت المرأة الأقوى في العالم بحسب مجلة «فوربس». كيف يمكن لامرأة عاشت حياة بسيطة في بيئة بسيطة أن تزاحم أعتى رجال أوروبا وأكثرهم صلافة على طاولة صنع القرار لتصل إلى مقود العمل السياسي خلال 15 عاما؟ هذا هو السؤال الذي يعني النساء العربيات اللاتي يجاهدن كل يوم للوصول لحافة الطريق الذي بدأت منه ميركل.

أظن أن الفارق الذي صنع ميركل ولم تجده المرأة العربية هو ما يكمن في كلمة: فرصة.

والفرصة تختلف عن الحظ، الحظ مسألة قدرية بحتة لا حول للإنسان فيها، كمن يجد نفسه على وشك الغرق في بحيرة عميقة ثم يسعفه حظه بمرور مركب إنقاذ إلى جواره. إنما الفرصة أمر آخر، إنها ببساطة عوامل التغيير التي يصنعها المرء لنفسه أو يلتقطها من محيطه ويسخرها لخدمته. ربما أن حديث المقارنة بين المجتمع الألماني والعربي ليس منصفا، ولكن الواقع أن عوامل التغيير لها التأثير نفسه في كل مكان، بدليل أن هناك ميركل واحدة في ألمانيا، وكانت هناك ثاتشر واحدة في بريطانيا، أي أن قارة أوروبا تنجب العظيمات كل أربعين عاما، والحقيقة أن هذه النسبة لا تبتعد كثيرا عن نسبة ولادة الرجال العظماء.

في تحليلي لشخص ميركل أعتقد أن الحظ الوحيد الذي حالفها يكمن في استعدادها الجيني لتكون الشخصية الزعيمة. الجينات الوراثية التي تترجم إلى مهارات قيادية موجودة لدى ميركل لا محالة، هذا شأن علمي بحت، وهو ليس بالضرورة أمرا موروثا، فقد يتشكل في مرحلة النطفة. من غير هذا المخزون الجيني النوعي لم تكن لميركل أن تتزعم وإن قدمت لها فرصة الزعامة على طبق من ذهب. تريدون الدليل الظاهري على ذلك، انظروا حولكم كم من القياديين من يجلس على كرسيه ليبرهن على فشله في كل مناسبة!

أما أولى الفرص التي أتيحت لميركل فكانت والدها، وأظنني لا أكشف سرا حينما أقول إن للأب في حياة الابنة تأثيرا عميقا يحدد أسلوب تعاطيها مع الرجل طوال حياتها.. إما تكرهه، وإما تحابيه، وإما تخضع له، وإما، كما ميركل، تتجرأ على منافسته من دون خوف. والد ميركل رجل الدين الحكيم، سمح لها بالتفكير الحر بعيدا عن جلبابه، والتفكير الحر هو عماد القوة. تعلمت منه لكنها لم ترضخ لميوله، وحينما خالفته توجهه السياسي لم يتخل عن دعمها، فأصبح كل رجل بعد والدها أهلا للمخالفة والمنافسة والتحدي.

طبيعة دراستها كذلك في مجال الرياضيات والفيزياء جعلتها ذات تفكير علمي يعتمد البراهين والحقائق في فهم وتقييم الأحداث، هي تقول إن دراستها للعلوم الطبيعية جعلتها أكثر فهما للسياسة. كما ساندتها دراستها الرياضية في إدارة دولة ذات اقتصاد ضخم ومهيمن، أنقذ اقتصاد منطقة اليورو في أسوأ أزمة اقتصادية تعصف بها، ليس لأن ألمانيا بقرة حلوب تطعم الجائعين، بل لأن ميركل مدبرة منزل على درجة كبيرة من الوعي. أيضا الظروف التي وجدت نفسها معاصرة لها كاتحاد الألمانيتين الشرقية والغربية بعد سقوط حائط برلين هي من فرص التاريخ التي يفوز بها ويستثمرها النجباء، وميركل نجيبة، خضعت لإرادة معلمها المستشار الأسبق هلموت كول الذي احتضنها سياسيا وقدم لها إضاءات الطريق، وبقيت في ظله حتى أزف وقت الظهور، لكنها لم تستح أن تعلن تخليها عنه حينما حامت حوله شبهة فساد.

أفكر في شخصية ميركل من دون أن أبتعد عن شخصيات نسائية عربية لا تختلف كثيرا من حيث الصفات الشخصية للمستشارة الألمانية، لكن الفارق أنهن لم يحققن المعادلة كاملة، والمعادلة الكاملة هي كالتالي: الشجاعة، النزاهة، الوطنية، الترفع عن الفجور في الخصومة. وهذه الأخيرة تحديدا قد تكون ضعيفة لدى النساء حتى في أوروبا وأميركا، لأن المرأة بطبعها تميل للتعصب في التحزب، وتتردد في توسيع دائرة المشاركة. أما ميركل فهي اليوم تحير خصومها.. إن دخلوا معها في حكومة ائتلافية ابتلعتهم بقوة تأثيرها، وإن اختاروا أن ينافسوها غلبتهم، وهي تشاهد حيرتهم وتضحك في سرها ضحكة القادر المتحكم.

مع ذلك يطرأ على ذاكرتي أكثر من اسم لامرأة عربية يشبهن إلى حد بعيد المستشارة الزعيمة، لديهن هذا الشغف بالنجاح، والقدرة على المنافسة، والاستعداد للتضحية من أجل بلوغ الهدف، لكنهن إما حرمن الفرصة المناسبة وإما قصرن من جهتهن في الإعداد لها، صحيح أنها أشياء لا تشترى، إنما يمكن صنعها ذاتيا.

[email protected]