الإرهاب: أجيال وهويات وأنماط جديدة

TT

العالم الداخلي لجماعات العنف المسلح، وعلى رأسها «القاعدة» وأخواتها، متشابك ومعقد وكثيف الظلال عكس ما يبدو أنه بسيط ومباشر (أشخاص ناقمون يسعون للتغيير بالقوة)، وبسبب هذا التبسيط في فهم هذه الظاهرة، اعتقد الحالمون بما سمي «الربيع العربي» منذ انطلاقه، تهميش مكون أساسي في المشهد السياسي العالمي وهو «جماعات العنف المسلح»، والتي تختلف عن جماعات الإسلام السياسي وإن كانت منبثقة عنها في الرؤية والتكوين الفكري والقضايا العامة، إلا أنها تختلف عنها باعتبارها جماعات فوضوية ذات منزع عقائدي وليست جماعة سياسية تهدف إلى السيطرة على مفاصل المجتمع عبر شعارات دينية. القاعديون لا يكترثون بالمتغير السياسي إلا من حيث قدرته على إتاحة الفرصة لهم في إعادة بناء جسد التنظيم وخلاياه، وفي سبيل ذلك يمكن مهادنة الأنظمة القائمة، سواء تلك الربيعية ذات المنزع الإسلاموي أو حتى حالة الفراغ السياسي في الدول التي لم تستقر على حال.

لكن جماعات العنف المسلح وهي الظاهرة الآن المنافسة للتيار الرئيس (القاعدة) التي ظلت تحصد الاهتمام وعدسات التركيز مما أسهم في إهمال نظيراتها حتى تضخمت اليوم وباتت جماعات مستقلة ورئيسة ذات طابع محلي. نجد هذا في «قاعدة جزيرة العرب»، ونجده في جماعات العنف في سيناء وفي ليبيا وتونس ومالي وشمال أفريقيا وفي القرن الأفريقي، وبالطبع هذه المجموعات تختلف جذريا عن حالة مقاتلي جبهة النصرة أو حتى مثلا عن المجموعات الصغيرة المسلحة في لبنان التي تستهدف بناء توازن مسلح يقابل قوة حزب الله من دون أن يكترث بأكثر من ذلك، وفي كل منطقة من هذه المناطق تختلف جماعات العنف المسلح عن السياق العام لتنظيم القاعدة من حيث استهداف المواقع الغربية ورفع العداء لأميركا والقيام بعمليات كبيرة ونوعية ذات بعد إعلامي.

على العكس تماما تنزع جماعات العنف المسلح مثلا في سيناء إلى الحفاظ على حدودها الافتراضية للسلطة والسيطرة بحيث لا تبحث أبعد عن هذا الهدف إلا في حالة تقويض مراكزها الجغرافية في سيناء والمنطقة المحيطة بها، وهذا ما يفسر العمليات الإرهابية الآن التي تنتقل إلى القاهرة ومحافظات مصر في مؤشر إلى نجاح حصار تلك الجماعات في سيناء بعد أن عاشت فترة ازدهار في ظل حكم مرسي بسبب إطلاق القيادات وحالة التفاوض السياسي بين الجماعة وبينها.

تصورات جماعات العنف المسلح عن ذاتها وأدوارها وطريقة أدائها على الأرض وحتى طموحاتها على الأرض لا يتصل بـ«المتغير السياسي»، لذلك وضعها في سياق جماعات الإسلام السياسي باعتبار أنها الخيار الأسوأ في حال فشل التغيير السلمي مغالطة كبرى وخطيئة سياسية أفرزت لنا هذه التصورات المغلوطة، وأسهم في ذلك أن لحظة الحراك الديمقراطي في المنطقة ما قبل «الربيع»، حيث التبشير بمشروع الشرق الأوسط الكبير والتصالح بين الغرب والإسلام السياسي كان مبنيا على تكريس هذه المغالطة باعتبار أن الإسلاميين الجدد هم البديل المعتدل عن «القاعدة» وأخواتها على طريقة «الإحلال الناعم» في حين أن مراجعة بسيطة لأدبيات ونشأة وتاريخ هذه الجماعات تؤكد أنها ليست داخلة في العملية السياسية، بل هي متجاوزة لها ولمفهوم الدولة الذي لا تعترف به، فضلا عن أن تخوض معركة الاستحواذ على السلطة، هي جماعات تقويضية ذات منزع عقائدي لا ترى في غير السلاح أسلوبا للتغيير، بل هو سلوك للحياة، لذلك هم يرون أنهم حتمية وجودية دينية على اعتبار أن الجهاد لا ينقطع إلى يوم القيامة.

والسؤال: ما الذي يفيد في معرفة هذه الفروقات المتشعبة جدا في التعامل مع جماعات العنف المسلح؟!

التمييز بين نشأة وأفكار وسياق وأهداف كل جماعة هو مفتاح رئيس في التعامل مع كل جماعة، فالجماعات المحلية الصنع ذات البعد الجهوي والقبلي والاقتصادي مثل سيناء لا يمكن اجتثاثهم من دون تجريف بذورهم الاجتماعية، بينما الأعضاء المقاتلون في مجموعات النصرة والقادمون من دول أوروبا لا يمكن إلا اعتبارهم طارئين على المشهد وراحلين بانتهائه، كما أن خطورة الجماعات التي تحولت إلى ما يشبه الدولة كالحالة الصومالية وتقترب منها مجموعات أبين وشبوة أكثر بكثير من المقاتلين الهواة الذين ينفذون عمليات انتحارية فردية أو أولئك الأفراد في المجتمعات الفردية الذين يعبرون عن أزمة هوية معزولة بحاجة إلى اندماج أكثر من إرادتهم للتغير العنفي.

الجديد الآن في عالم الإرهاب الأسود هو الاندماج المرعب بين الأنماط المختلفة لجماعات العنف المسلح، فحالة «الأرملة البيضاء» المرأة البريطانية التي تقاتل مع الشباب في الصومال تعني دخول نمط جديد من استقطاب النساء (نشر حركة الشباب الصومالية طلبات عضوية خاصة بالنساء)، كما أن حالة القيام بهجمة في دول مجاورة مع الاستفادة من المركز الرئيس تعني نمطا جديدا من الدعم اللوجيستي.

البريطانية ليثويت تركت مذكرات على حاسبها الشخصي بعد أن خدعت المحققين بأنها مجرد ضحية وجدت مصادفة في مكان الحادث تقول فيها: لدي ثلاثة أولاد أرغب في جعلهم كلهم شهداء، وهي نفس رغبة «ماما شباب» الكندية التي تدير معسكرا لإرهابيين في الصومال.. الأكيد أننا أمام موجة كبيرة وهائلة من الإرهاب بهويات جديدة.

[email protected]