نوبل ملالا.. موعد مع المستقبل

TT

تعلن نوبل للسلام غدا ضمن أجواء توقعات أن الفائزة بها هي التلميذة الباكستانية ملالا يوسفزاي. إن حصل هذا فسوف يعطي لشهر أكتوبر (تشرين الأول) بعدا جديدا، إنه المستقبل. كما صار معروفا، حاول رصاص حركة طالبان، قبل عام، قتل ملالا لكي يخنق صوت حق يطالب بنور المعرفة. ترى لماذا يخاف الطالبانيون ذهاب البنات إلى المدارس، ألم يتخرجوا في المدرسة؟ أم أنهم درسوا ما أوجس في أنفسهم الخيفة؟ راج في السنوات الأخيرة تعبير وصفهم، ومن شابههم في المنهج، بأنهم «ظلاميون». ومع أن الوصف كما هو واضح، يرمز إلى إحالة السلوك الطالباني للعصور المظلمة، أو القرون الوسطى، فهو وصف فيه اختزال لأمر أعتقد أنه ذو تعقيدات أكثر تشابكا وأخطر مما يبدو على السطح.

القول إن سلوك حركة طالبان، سواء تجاه تعليم البنات، أو غيره من أنماط الحياة، ينبع من تفكير منقطع الصلة بواقع معيش ويمارس على نحو يومي، وبشكل طبيعي، من جانب أغلب الناس في مجتمعات العالم الإسلامي كله، لا يكفي، بل هناك حاجة للغوص في عمق نظرة وتفكير أقلية تعترض على أسلوب حياة الأغلبية، ولا تخفي إصرارها على فرض رؤيتها بقوة العنف. محاولة قتل ملالا ليست منقطعة الجذور، فالضحايا كثر في مختلف بقاع العالم الإسلامي، سواء تحت اسم «جرائم الشرف»، أو بدعوى كسر رجل البنت - بالتعبير الدارج - وحبسها في البيت قبل أن تجسر على التمرد فترفض - مثلا - تزويجها بمن يقرر رب بيتها أنه خير زوج لها.

المؤسف، أو قل المؤلم، أن نظرة تلك الأقلية وتفكيرها، كما هو واضح، في حالة ثبات وتقدم. الثبات بمعنى التشبث المعاند، والتقدم هو على مستوى حسابات التأثير، وليس بمدى الحجم أو العدد. ففي أكثر من بلد يتردد قول خلاصته أن تفكير نخبة المجتمع متقدم على أغلبيته، إنما يعرقل التغيير ذلك التخوف من تأثير رد فعل أقلية متزمتة نجحت في امتلاك قدرة التأثير على قناعات الأغلبية. ذلك تبرير يثبت ثبات الممسكين بمسار التخلف في أي مجتمع، فيحولون بينه وبين التقدم إلى الأمام بثبات يستند إلى قيم ليست موضع خلاف، إنما حوّلها البعض إلى مفاهيم خادمة لأجندة ذات أغراض متعددة، يجمعها شد العالم الإسلامي إلى الوراء، وهدف «كسر رجل» البنت ليس فقط منعها من المشي إلى المدارس، كما يزعم رجال طالبان وأمثالهم، وإنما الغرض وأد النساء في البيوت للحيلولة دون انطلاق المجتمع نحو المستقبل. في هذا السياق، يمكن القول إن ملالا إنما ضربت مثالا.

يضاف إلى ذلك أن ثبات تيار الانغلاق الذي تعبر عنه تلك الأقلية، وتمكنه من تحقيق تقدم يثير القلق، حتى في مجتمعات بلدان عربية وإسلامية تحقق فيها للمرأة تفوق ملموس، يطرحان على المعنيين بالمواجهة ضرورة الانتقال من الأقوال إلى الأفعال، ويجوز هنا التساؤل: لماذا الانتظار عندما يتعلق الأمر بحسم مسائل يوظفها الطالبانيون في أكثر من مجتمع إسلامي لأجل تعزيز مواقعهم وتوسيع دائرة نفوذهم؟

بالتأكيد، الصورة ليست مظلمة كما يريد لها تيار التخلف أن تكون، ولا كما تبالغ في عرضها وسائل إعلام عالمية متعددة الأهواء والأهداف. لقد أمكن للمرأة في عدد من دول العالمين العربي والإسلامي الوصول إلى ما حققته المرأة في عدد من الدول المتقدمة في غير مجال، بما في ذلك الصعود إلى قمة الهرم الوظيفي. على سبيل المثال، شهدت أوائل ستينات القرن العشرين تعيين حكمت أبو زيد في مصر وزيرة دولة للشؤون الاجتماعية. في الأردن تولت اللبنانية الأصل، ليلى شرف (أرملة رئيس الوزراء الأردني عبد الحميد شرف) وزارة الإعلام. في تونس كان تأثير الحضور السياسي والاجتماعي للسيدة وسيلة بورقيبة، يقترب من درجة تأثير الرئيس ذاته زمن تألق زعامته، وليس في خواتيمها. وفي بلد ملالا، باكستان نفسها، تولت بي نظير بوتو رئاسة الحكومة مرتين، وقاتلت خارج الحكم معاركها السياسية بشجاعة حتى قتلت. وفي تركيا ترأست تانسو تشيلر الحكومة ثلاث مرات. وفي إيران دافعت المحامية شيرين عبادي (أول امرأة تجلس على كرسي القضاء الإيراني زمن الشاه) عن حقوق الإنسان ودفعت الثمن، وفي عام 2003 كانت أول امرأة من العالم الإسلامي تحصل على جائزة نوبل للسلام. في العراق أسهمت نزيهة جودت الدليمي في إصدار قانون الأحوال الشخصية سنة 1959، وكان يومذاك الأكثر تقدما في الشرق الأوسط كله لجهة حقوق المرأة. ثم إن المرأة في العالمين العربي والإسلامي قادت وتقود طائرات مدنية وعسكرية، وتولت ولا تزال مناصب متقدمة في مجالات إدارية، اقتصادية، بنكية، تربوية، أكاديمية، قضائية، أمنية، بيئية، ودبلوماسية.

تلك أمثلة ينطق بها الحاضر، أما بطون الكتب فتحفل بكل ما يعزز شأن المرأة عبر التاريخ العربي والإسلامي. وكلاهما، أمثلة النجاح حاضرا، والتألق ماضيا، هما بالتحديد ما يريد دعاة الشد إلى الوراء حذفه من عقول الجيل الجديد، كي تتحجر القلوب، وتجف في الأدمغة شرايين التفكير في الغد، فلا تبصر من الأمس إلا ما يراد لها أن تراه من سواد الجهل، كأنما شمس المعرفة لم تنر سبل العرب والمسلمين طوال قرون.

مع ذلك، نبقى على موعد مع غد مختلف. فسواء فازت ملالا بجائزة نوبل للسلام غدا، والفوز هو الأرجح، أم لم تفز، يبقى الترشيح في حد ذاته فوزا لما ترمز إليه، المستقبل. ومثلما أن محاولة أكتوبر 2012 لقتل تلميذة في حافلة مدرسية أضافت نقطة سوداء لسجل الطالبانيين الحافل بالعنف والدم، ها هو أكتوبر 2013 يعزز الأمل بأن جيل ملالا يوسفزاي، حيثما كان، سيربح المواجهة مع دعاة الجهل ويفوز بالمستقبل.

[email protected]