السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية في المغرب

TT

لا تقوم الحياة السياسية الطبيعية في مراعاة مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث فحسب، بل الحق أنها تكمن في تمكين كل من السلطتين التنفيذية والتشريعية في القيام بالدور المناط بكل منهما. فأما السلطة القضائية فنحن في غنى عن القول إنها في استقلالها الفعلي عن السلطتين الأخريين، هي العلامة الدالة على سلك درب الديمقراطية الصحيحة، إذ إن معنى دولة القانون لا يعني شيئا آخر سوى تحقق هذه الاستقلالية. وأما دور السلطة التنفيذية فهو الحرص الأكيد على الالتزام بتطبيق الأحكام التي تشرعها السلطة التشريعية وإفراغها في دوريات ومذكرات وأوامر إدارية قابلة للتطبيق مثلما يقوم دورها في السهر على تنفيذ ما تقره السلطة القضائية من أحكام، أو لنقل إن هذين هما المظهران القويان على الممارسة المنطقية للسلطة التنفيذية وصرفها في وجهها الصحيح. ومن الطبيعي أن الشرط في ذلك هو الوجود الفعلي للسلطة التنفيذية القادرة على فرض هيبة الدولة وبسط سلطانها، وذلك هو مغزى الحكومة القوية المنسجمة، تلك التي لا يعترض عملها سلطة خفية ولا تعبث بأجهزتها «دولة عميقة» ولا «دولة مارقة» (كما يقال اليوم في أدبيات العلوم السياسية). وأما السلطة التشريعية، ممثلة في الأشخاص الذين ترتضيهم الأمة نوابا عنها ومتحدثين باسمها وتختارهم القوى السياسية ممثلين لاختياراتها في تصور الممارسة الأفضل للسلطة أو من أجل بلورة الرأي الآخر أو البديل الذي تراه تلك القوى السياسية (أو البعض منها) متى كان في جهة المعارضة، تقف وقفة المراقبة والمحاسبة، فدورها المراقبة والتشريع. لنقل في كلمة جامعة، إن العملية الديمقراطية المأمول ممارستها تكمن في مراعاة هذه القواعد البسيطة في ذاتها.

نحسب أن استحضار هذه الأوليات والتذكير بها، الفينة إثر الفينة (أو كلما استوجب الأمر ذلك)، هو على نحو من الأنحاء إسهام في التدليل على النهج القويم الذي يفضي إلى تحقق دولة العقل، والحرية، والمواطنة، والكرامة، وبالتالي دولة القانون. وفي المغرب يكون اليوم يوم الجمعة الثاني، الذي يوافق هذا العام الـ11 من أكتوبر (تشرين الأول) بدءا فعليا للسنة التشريعية الجديدة، ويكون حضور الملك في هذه المناسبة إعلانا رسميا، بموجب دستور البلاد، عن انطلاقته الرسمية، كما أن العرف قد جرى بحيث إن خطاب الملك في حفل الإعلان عن بدء السنة التشريعية الجديدة يتضمن تنبيها إلى قضية وطنية كبرى تستوجب إعمال العقل التشريعي وتستلزم النقاش الوطني ممثلا في نواب الأمة. وعلى كل فإن القضايا الكبرى التي تنتظر البث التشريعي فيها هي تلك التي جرى إقرارها في الدستور المغربي الحالي، فهي إذن في انتظار ترجمتها في قوانين عضوية كبرى، أو إنها كما يقال في اللغة السياسية في المغرب، تترقب التنزيل، أي نقلها من التضمين الذي ترتفع به مع الدستور إلى سماء التجريد الحقوقي إلى قوانين وأحكام تشريعية ترسم معالم الطريق وتغدو قابلة للتطبيق. هذه القضايا هي ثلاث كبرى؛ الأولى تتعلق بالتشريع الأعلى للمنظومة التعليمية في المغرب (المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي)، والثانية تتعلق بالجهات والجماعات الترابية للمملكة المغربية (قانون تنظيمي شامل ينظم كيفية تأسيس وتسيير هذه الجهات والجماعات الترابية)، والثالثة تتعلق بشؤون الثقافة وما اتصل بها، والدستور المغربي ينص على إحداث (مجلس وطني للغات والثقافة الوطنية). هي إذن أوليات كبرى، وهي بعض من التنظيمات الجديدة التي يحدثها الدستور المغربي الحالي ولا يكتمل معناه إلا بذلك العمل التشريعي.

فعلى أي نحو يلزم أن يكون عمل كل من السلطتين التشريعية والتنفيذية في المغرب في ضوء الانتظارات التشريعية التي أشرنا إليها؟

تبدو الإجابة للوهلة الأولى بسيطة ومباشرة في ضوء التمييز بين عمل كل من السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية على النحو الذي ذكرنا به في الفقرات السابقة، لكن الواقع أن الأمور ليست دوما على النحو المطلوب من البساطة، فقد تكون المعطيات الفعلية تشي بتعذر هذا المعنى أو تجعل الطريق إليه محفوفا بالمزالق والصعوبات. لنحاول في نظرة فاحصة أن نعتبر طبيعة الصلة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في المغرب.

تشكو المؤسسة التشريعية من ضعف في العمل التشريعي، بمعنى أن الحصيلة السنوية للبرلمان المغربي تكون في الأغلب الأعم من الأحوال ضعيفة، بل هزيلة. ونحن إذ رجعنا إلى العمل التشريعي في الديمقراطيات العريقة فنحن نجد أنه يستمد من جهتين اثنتين ربما كان التنافس بينهما قويا، بل حاد في بعض الأحوال؛ الجهة الأولى هي الحكومة أو السلطة التنفيذية، وذلك بموجب اقتراح القوانين التي تتقدم بها إلى السلطة التشريعية قصد المصادقة عليها، ذلك أن التطبيق الفعلي للسياسة التي تكون الحكومة القائمة قد أعلنت عنها قبل الإمساك الفعلي بدفة الحكم يستوجب قوانين جديدة، أو يستوجب إحداث تغييرات جذرية في القوانين الجاري بها العمل حتى ذلك الوقت، وهذا الأمر يستدعي إقرارا من البرلمان بموجب سلطته التشريعية (كما أنه قد يستلزم مصادقة من المجلس الدستوري أو من المحكمة الدستورية العليا). والجهة الثانية هي البرلمان ذاته، بواسطة لجانه التقنية ثم عن طريق المصادقة بالتصويت. أما أغلب عمل البرلمان المغربي فنظر ثم إقرار لمشاريع القوانين التي تتقدم بها الحكومة. لا بل إننا نذهب فندعي، أبعد من ذلك، أن نصيب البرلمان المغربي من المبادرة التشريعية هزيل لا يكاد يذكر. وفي الممارسة الديمقراطية السليمة يعد أمر من هذا القبيل تقصيرا وضعفا، بل يعد تنكبا عن المهمة الأساسية التي توكلها الأمة لمن ينوبون عنها. شيء آخر يستدعي المقام ذكره والتعجب منه في الوقت ذاته حين الحديث عن واقع الممارسة البرلمانية في المغرب: إنه واقع الغياب الكثير عن جلسات البرلمان، كثرة تثير الانتباه وتحمل على الحسرة في الوقت ذاته، لا بل إن الوجود الاسمي أسفل قبة المجلس التشريعي لا يعدو العشرات القليلة عوضا عن المئات العدة التي تتألف منها الغرفة الأولى.

لماذا كان الأمر على هذا النحو؟ ولماذا لا تتسم الأحكام التنظيمية بالصرامة الواجبة؟ بل ولمَ لا يكون تطبيقها تطبيقا مرضيا فوريا؟ ثم أليس الضعف التشريعي من المؤسسة التشريعية في المغرب يعود إلى هذا الغياب المثير للدهشة والأسى معا؟