إيذاء المرضى.. أرقام عالمية مزعجة

TT

حينما يقال إن «شيئا» ما يتسبب بوفاة أو بإعاقة عجز 23 مليون إنسان عالميا في كل عام، فإن هذا العامل لا بد أن يسترعي الانتباه. وحينما يقال إن هذا الـ«شيء» يتعرض له 43 مليون إنسان عالميا في كل عام ويؤدي إلى وفاة أو إعاقة نصفهم، فإن الأمر لا بد أن يستدعي ويستجلب مزيدا ومزيدا من التنبه. وللتقريب، فلو أن هناك مرضا ما يصيب مجموعة من الناس ويؤدي إلى وفاة أو إعاقة نصفهم فإن هذا المرض يصنف من الأمراض عالية الخطورة، نظرا لأن نسبة الوفيات أو إعاقات العجز التي تطال المصابين به تصل إلى 50%.

ماذا لو أن هذا العامل ليس مرضا ابتلي البشر به وعليهم أن يتقبلوا إصابة بعضهم به والسعي نحو تلقي معالجته، وماذا لو أن هذا العامل «شيء» نصنعه نحن بأيدينا معشر الأوساط الطبية، ونقدمه تحديدا للمرضى الذين يدخلون إلى المستشفيات لتلقي المعالجة الطبية لا لتلقي الأضرار الطبية التي تقترف بحقهم وهم في المستشفيات.

ما لا يزال ضمن «البديهيات» التي من الصعب زحزحتها عن هذا النطاق هو أن المريض بدخوله إلى المستشفى يأمل تلقي معالجة لمرضه ويأمل أن يخرج من المستشفى بحال أفضل. وما لا يزال ضمن المقبول عقلا وواقعا أن المريض يتوقع أن خدمة الذين يقدمون له الرعاية الطبية في المستشفيات يجدر أن لا تكون سببا في هلاكه أو إصابته بإعاقة.

وقد يتقبل المريض أن حالته المرضية قد تكون عصية على العلاج ويصعب الشفاء منها، ولكن من الصعب إقناعه أن الخدمة العلاجية عصية على أن تكون ذات جودة متقنة أو خالية من الاهتمام بوسائل ضمان سلامة المريض.

وكي لا يبدو الكلام ضربا من الخيال، دعونا نراجع نتائج هذه الدراسة المنشورة ضمن عدد 18 سبتمبر (أيلول) من المجلة الطبية البريطانية للجودة والسلامة BMJ Quality & Safety. التي قام الباحثون من كلية هارفارد للصحة العامة بالولايات المتحدة فيها بمراجعة وتحليل نتائج أربعة آلاف دراسة طبية صدرت منذ عام 1976 حول الرعاية الطبية متدنية المستوى التي تقدمها المستشفيات في شتى أرجاء العالم للمرضى المنومين فيها. وركز الباحثون على سبعة جوانب رئيسة لمظاهر تدني تلقي الرعاية الطبية بالمستشفيات، وهي: الأضرار الناجمة عن الأدوية الموصوفة للمرضى، التهاب المسالك البولية المرتبط بوضع قسطرة التبول، التهاب الأوعية الدموية المرتبط بوضع قسطرة في أحد الأوعية الدموية، الالتهاب الرئوي المكتسب بالمستشفى، جلطات الدم في الأوردة، حالات تعثر وسقوط المريض، وحالات نشوء التقرحات الجلدية جراء الاستلقاء على السرير.

وتبين لهم أنه في كل عام يصاب بأحد أو بعض أنواع هذا الضرر نحو 43 مليون مريض منوم في المستشفى جراء تلقي «رعاية طبية بالمستشفى دون المستوى المطلوب» substandard hospitals care في كل أرجاء العالم، أي هذا العدد من الملايين في كل عام. وبالتفصيل، أفادوا في نتائجهم أن من بين كل 100 مريض يدخل إلى مستشفى في أحد الدول ذات الدخل المادي العالي high - income countries يصاب نحو 14 منهم بالضرر جراء تلقي رعاية طبية دون المستوى المطلوب، وأن 13 من بين كل 100 مريض يدخلون إلى المستشفى في أحد الدول المتوسطة أو المتدنية في الدخل المادي low - and middle - income countries يصابون بنفس الأمر. ونظرا لأن عدد المرضى المنومين يختلف بين تلك الدول ذات المستويات المختلفة في الدخل المادي، فإن أحد أو بعض أنواع هذا الضرر يصيب نحو 17 مليون مريض منوم في المستشفى بالدول ذات الدخل المادي المرتفع، ويصيب كذلك نحو 26 مليون من بين مرضى المستشفيات في مستشفيات الدول ذات المستويات الأدنى منها في الدخل المادي، أي المتوسط والمتدني.

وبتفصيل أدق، لاحظ الباحثون أن في الدول الأغنى ماديا، تشكل أضرار الأدوية الموصوفة للمرضى النسبة الأعلى من بين مظاهر تلقي رعاية طبية دون المستوى المطلوب في المستشفيات. بينما شكلت جلطات الأوردة النسبة الأعلى في مستشفيات الدول ذات المستويات الأدنى منها في الدخل المادي.

ومن بين هؤلاء الـ43 مليون متضرر أثناء تلقي رعاية أدنى من المستوى المطلوب، يموت أو يصاب بإعاقة العجز نحو 23 مليون مريض، 16 مليونا منهم في مستشفيات الدول المتوسطة والمتدنية الدخل، وسبعة ملايين في مستشفيات الدول الغنية. ونحو 80% من هذه الوفيات تحديدا تصنف طبيا بأنها «وفاة سابقة لأوانها المفترض» Premature death.

الباحثون رددوا في نهاية بحثهم ما هو بديهي، وهو أن من حق كل المرضى أن يكونوا واثقين أنهم بدخولهم إلى المستشفى سيتلقون رعاية طبية ذات جودة عالية ورعاية طبية آمنة تهتم بسلامتهم، وأضافوا: «حينما يمرض المريض فإنه لا يجدر أن يصاب بضرر أكبر جراء تلقي رعاية طبية غير آمنة، وهو ما يجب أن تهتم به جميع الأمم».

وفي بعض الدول المتقدمة، كانت المعالجة الطبية في بداية القرن الحالي السبب التاسع للوفيات، وأصبحت تحتل اليوم المرتبة الثالثة. وللمقارنة لتوضيح أهمية الأمر، فإن أمراض القلب التي تصنف طبيا بأنها «القاتل الأول عالميا» تتسبب بوفاة نحو 17 مليون إنسان سنويا وفق إحصائيات منظمة الصحة العالمية، ولكن فيما يبدو ثمة «شيء آخر» غير الأمراض التي نعرفها ينمو في التسبب بأرقام عالية من الوفيات أو الإعاقات على المستوى العالمي. ولذا، الاهتمام بجوانب جودة الخدمة الطبية وسلامة المرضى ليس ترفا أو مجهودا اختياريا للمستشفيات بل هو ضرورة ذات أولوية ملحة.

* استشاري باطنية وقلب

مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض

[email protected]