لا فكاهة من دون بساطة

TT

كل الظرفاء في التاريخ يؤكدون استعمال اللغة البسيطة والقريبة من العامية. ولا عجب في ذلك. تصوروا لو أن سائر الممثلين الكوميديين من جعفر آغا لقلق زاده إلى بشارة واكيم ومحمود شكوكو وإسماعيل ياسين استعملوا لغة سيبويه في تقليعاتهم وحواراتهم. وقل مثل ذلك عن نجوم المسرح والسينما في الغرب، وتصور لو أن شارلي شابلن وتوني هانكوك ولوريل وهاردي لفظوا تقليعاتهم بلغة شكسبير أو جون ملتن.

كان عمنا وشيخنا الجاحظ من أول من لفت أنظار الأدباء إلى ضرورة استعمال لغة بسيطة في فكاهاتهم، وحذرهم من الكلمات الحوشية الغريبة على الأسماع. مشى على هذا المسار السلس الشيخ عبد العزيز البشري. وهكذا كتب قائلا ساخرا كعادته: «إذا أبيتم ألا يتندر الناس إلا بالفصيح، فعليكم أولا تحفيظ الأمة كلها المعلقات السبع والمذهبات السبع والمنتقيات السبع والملحمات السبع. وأنا زعيم لكم بأن الناس لن يعودوا يسمعون في أعراس أولاد البلد في قافية أسماء الشوارع مثلا: (اللي على جتتك!)، (اشمعني؟)، (الضرب الأحمر). ويسمعون إن شاء الله: (هذا البادي على جثمانك؟)، (ما باله؟)، (من أثر المشق بالسياط)».

ولكن الشيخ رحمه الله وأدام ذكراه، نراه يبدع في استعمال الفصيح من الكلام والبليغ من العبارات ويجاري فيه أسلوب القدماء من عمالقة الأدب العربي، كما في هذه القطعة الغنية بالسجع والإيقاع الموسيقي: «وفضل المشايخ ليس في الجبة والقفطان ولا في القميص والكتان، ولا في الأكمام تضرب إلى الأقدام ولا في المسبحة تتدلى من الرقبة إلى ما تحت الحزام، بل وليس فضل المشايخ في ثياب الحرير والخز، ولا في استعمال الخف والمز، ولا في التمتمة والهمهمة، ولا في المشية المطمطمة. ولا تحسبن كذلك للمشايخ فضلا في القعقعة بالقاف، ولا في جعلها مكان الهمزة والكاف. فأهل بلبيس ورشيد أضخم الناس قافا. والدكتور محجوب ثابت يتكلم فتكون للقاف في كلامه جلجلة لا يحلم بها أغلظ المشايخ حلقا ولا أوسعهم شدقا».

وبالطبع، كان الشيخ البشري هنا يداعب صديقه الدكتور محجوب الذي هام حبا بفصاحة اللغة العربية فراح يستعمل القاف في كلامه الاعتيادي يوميا خلافا لما هو معتاد بين المصريين وأهل الشام في لفظ القاف بالهمزة. ولكن البشري هنا استغل الفرصة في عين الوقت ليمازح زملاءه من مشايخ الأزهر ومصر عموما. وكان البشري في الواقع يجاري ويناظر نثرا ما كان قد قاله زميله الآخر أحمد شوقي في السخرية من قافات الدكتور.

ولا شك في أن من أفضال عبد العزيز البشري، هذا القاضي الساخر والأديب المبدع، سلسلة الأحاديث الحاشدة بالظرف والدعابة التي قدمها من إذاعة القاهرة في الثلاثينات.