قطر مجددا!

TT

كانت أول مرة زرت فيها العاصمة القطرية الدوحة عام 1989، وكانت قطر مثلها مثل عدد من دول المنطقة في الخليج العربي تمر بأزمة مالية نتيجة الانخفاض الهائل في أسعار النفط في الأسواق العالمية، وبالتالي تدهورت المداخيل العامة للدول مما جعل وزارات المالية فيها تمتنع وتؤخر وتؤجل الدفع للمقاولين والشركات والمشاريع القائمة، مما أدى بالتالي إلى تدمير لقطاع عريض من المقاولين بتقصير لا يمكن إنكاره وخلق فجوة بين القطاع العام والخاص لفترة غير بسيطة. وكان مشهد الطرقات بالدوحة وخصوصا الكورنيش الرئيس فيها يبدو مهجورا والمعدات في الطرق بلا عمل والكل في حال غير عادية وغير بسيطة من الترقب ومن القلق، وبات الإحساس لدى الجميع أن أي مسؤول كبير سيضع يده في جيبه «سيسمعه» الكل بسبب تدهور الوضع المالي بشكل كبير.

اليوم الدوحة عبارة عن ورشة عمل هائلة؛ الكورنيش «إياه» امتد بشكل مهول ولكن البلد تحول إلى أسير أزمة مرورية خانقة، فالمشاريع المتسارعة والكبرى باتت فوق قدرات الطاقة الاستيعابية لشركات المقاولات فيها، مما فتح ملف العمالة الأجنبية بقوة من قبل الإعلام الأجنبي وتحديدا من قبل صحيفة «الغارديان» الإنجليزية، مما حول الإعلام ومجتمع الأعمال والدولة في قطر إلى خانة الدفاع عن نفسها بشكل فوري، وجرى «ربط» هذا الملف بقضية وموضوع استضافة قطر لبطولة كأس العالم عام 2022 والتي انطلقت أساسا بسبب مشاكل الطقس والمناخ والجو الحار والذي سيكون عائقا على اللاعبين والجمهور بشكل عام (وهي قضية مريبة ظهرت «فجأة» وكأن الطقس الحار ظهر فجأة من دون علم اللجنة المحللة لملف قطر، علما أن درجة الحرارة لا تختلف كثيرا عن المكسيك مثلا وهي التي استضافت البطولة نفسها مرتين من قبل). ولكن هناك حالة عامة في قطر نوعا ما، تظهر عند الحديث مع القطريين أنفسهم ومع المقيمين في قطر؛ فقطر اليوم تعيد ترتيب أولوياتها كما يبدو، فهي أقل اندفاعا في البروز الاستثماري الخارجي الذي كان يحمل طابعا استفزازيا في بعض الأحيان، وهي قررت الاتجاه لتكبير وتنمية الأيقونات الاقتصادية التي لديها مثل «القطرية للطيران» و«كيوتل للاتصالات» و«الديار القطرية للتطوير العمراني» و«بروة» و«قطر للبترول» و«قطر غاز» بشكل أساسي، وتنمية «المركز» والمكانة التي وصلت إليها قطر في المجال الرياضي والثقافي بشكل أساسي، وكذلك الأمر أيضا بالنسبة للقطاع الصحي والطبي، مع دعم واضح لبعض المصارف التجارية الناجحة مثل «QNB». ولكن المراجعة السياسية تبقى مكان طرح ومراجعة، وتحديدا موقف قطر من مصر وحركة الإخوان المسلمين ودعمها الإعلامي المتكامل لها، وتحويل قطر إلى مركز دعم في المهجر لمؤيديها قد يكون له الأثر السلبي الطويل الأجل لإحداث شرخ كبير مع مصر والمصريين، تماما كما كان الوضع من قبل مع نظام حسني مبارك، وتخفيف قطر لحماسها بخصوص القضية السورية وثورة شعبها ضد نظام بشار الأسد مسألة أيضا غير مفهومة تماما.

قطر تعتقد أنها تراهن على خيارات الشعب في مصر وترفض الاعتراف بأن الشعب أيضا اختار الخلاص من حكم محمد مرسي لأسباب باتت معروفة ولا داعي لإعادة شرحها وطرحها مجددا هنا، وهي في هذا الاختيار تتوجه بقوة لطريق معارض تماما لتوجه حلفائها وشركائها في دول مجلس التعاون، الذين أعلنوا بشكل واضح جدا تأييدهم لخيار الشعب المصري الجديد.

قطر منغمسة الآن بشكل أكبر في شأنها الداخلي والمعني بإصلاح إداري متكامل لوزاراتها وإداراتها الحكومية وتطوير أدوات المحاسبة والمساءلة والمكاشفة ضمن منظومة حوكمة متطورة تخضع لشفافية حقيقية وجديرة تشمل أيضا الانتهاء من استكمال البنية التحتية المتعلقة بالمطار الجديد والطرقات والجسور وشبكات المترو والسكك الحديدية والميناء والمستشفيات والمدارس، وهي خطة طموحة جدا لها سقف زمني مقرر له سلفا سيجعل موارد الدولة توجه لهذه الأمور بشكل رئيس. وغير معروف تحديدا كيف سيؤثر هذا كله على نهج السياسة الخارجية «المثيرة» لقطر حتى الآن، وكذلك الأمر يبدو أن هناك ثقلا جديدا لقطر سيكون من نصيب الصين واليابان وكوريا الجنوبية وروسيا تحديدا، لأن قطر لديها نهم كبير لهذه الأسواق لترويج سلعة الغاز فيها، وتنظر قطر بتعمق وتأن لأسواق أفريقيا وأميركا الجنوبية وتضعهما ضمن خططها المستقبلية. هناك الكثير يتغير في قطر ولكن هناك أيضا غموضا غير واضح وغير مفهوم في بعض المواقف يتطلب الوقوف أمامه بشكل أدق حتى يجري استيعابه قبل الحكم النهائي عليه.