كيف نجح الجيش المصري في العبورين؟

TT

عندما شنت إسرائيل الحرب على كل من مصر وسوريا والأردن عام 1967 كنا طلابا في الكلية العسكرية ببغداد، ولا تزال صورة معلم اللغة العبرية النقيب قوات خاصة المصري عمرو الدخاخني شاخصة أمامي، وهو يتحدث بمرارة عن خطورة قرار غلق مضايق تيران، الذي وصفه بعود الثقاب الذي سيشعل الحرب، التي حدثت لاحقا. وأذكر هذا لأنه يعكس مستوى التحليل الدقيق والقراءة الواعية للاحتمالات الصعبة من قبل ضابط كان برتبة صغيرة نسبيا، ويعطي انطباعا يدل على مستوى الإعداد القيادي للقوات المصرية. وهو ما أتيحت لي فرصة الاطلاع القريب على تفصيلاته فيما بعد، خلال الزيارات الميدانية لمقرات الجيوش وساحة عمليات سيناء ووزارة الدفاع والمخابرات الحربية.

عبور السادس من أكتوبر (تشرين الأول) 1973 تطلب مستوى متقدما من التخطيط وتدريبا راقيا وكتمانا لم يكن سهلا تحقيقه، والأهم من هذا توافر القدرة على تحمل مسؤولية اتخاذ قرار مصيري، يمكن أن يسبب الفشل فيه كارثة على مستوى الدولة. ولم أشاهد تحصينات دفاعية بقوة الدفاعات الإسرائيلية المطلة على قناة السويس مباشرة المعروفة بـ«خط بارليف»، والقادرة على تحمل إصابة مباشرة لأكبر ثقل ناري كان متاحا في تلك الفترة، مع احتفاظ الطيران الإسرائيلي بتفوق كبير خارج مظلة الدفاع الصاروخي المصري المحددة بمنطقة قناة السويس.

وتمكن القادة العسكريون المصريون والسوريون أيضا من تحقيق قدر كبير من المخادعة التي ضمنت المباغتة. وحتى لو توافرت لدى الإسرائيليين مؤشرات على نية الحرب، فإنها جاءت متأخرة جدا، ولم يعد ممكنا إجهاض النيات أو الإخلال بترتيبات الهجوم، ما يدل على براعة غير عادية في إخفاء تحضيرات عبور قناة السويس في أرض مفتوحة تتيح مجالا للرصد الدقيق من مسافات بعيدة، بينما كانت الدفاعات الإسرائيلية مطلة على القناة مباشرة. ومثل هذا الجهد الكبير والمميز يسجل للمخططين والمنفذين ولرجال الاستخبارات على حد سواء، وأثبت الرئيس السادات أنه زعيم مواقف صعبة، حتى لو اقتنع الناس بذلك متأخرين.

لقد فرضت القوات المصرية وجودا قويا بعبور قناة السويس، وإن عملية التطوير الصعبة والطارئة في عمق سيناء بعد سبعة أيام من بدء الحرب جاءت بقرار فرضته متطلبات تخفيف الضغط عن الجبهة السورية، نتيجة الاندفاع الإسرائيلي باتجاه دمشق. وأيا كانت الصعوبات الميدانية، فإن القيادات العسكرية المصرية أثبتت براعة كبيرة عكست مهنية عالية ومستوى علميا متقدما، رغم التفاوت في التسليح لصالح القوات الإسرائيلية، خصوصا في مجال التفوق التكنولوجي بطائرات القتال.

أما العبور الثاني، الذي يعبر عنه مؤيدو الثورة، فكان بقيادة الفريق أول عبد الفتاح السيسي في وقت بالغ الخطورة والتعقيد. العبور الذي لولاه لانزلقت مصر إلى حرب أهلية يصعب التكهن بنتائجها. وجدد السيسي وقادة القوات المسلحة وأجهزة الأمن والمخابرات القدرة على اتخاذ القرارات الحاسمة، وأعادوا ربط مرحلة 60 سنة، بعد أن حذفوا منها تجربة عام من حكم سياسي فشل في بناء علاقات سليمة مع الداخل ومراكز الثقل العربي معا. ومع أن قرار حذف تجربة عام سياسي لم يكن سهلا، إلا أنه بقي تحت سقف كل التوقعات التي أعدت لها التدابير مسبقا، مقابل قيادة حزبية بالغت في قدراتها، تأسيسا على توجهات تعتمد على التلويح بالعنف.

وخلال أسابيع من قرار عزل الرئيس مرسي، أمكن الوصول إلى كل القادة المهمين «لتنظيم الإخوان» واعتقالهم، وفقا لحركة معلومات تدل على تغطية شاملة ودقيقة، وأعيد ترتيب الأوضاع الاقتصادية، واحتواء خطط التدخل المضاد، وتجاهل المواقف الدولية التي لم تستند إلى معطيات يعوّل عليها. كما أن وحدة القيادة العسكرية والأمنية والسياسية تركت أثرا فعالا على الوضع العام، وعززت استقالة البرادعي من منصب نائب الرئيس حالة التناسق والاستمرار في المواقف، ومنع التشظي وتعدد الأدوار في مرحلة تتوقف نتائجها على وحدة القيادة وإرادتها.

وإذ حقق العبور الأول الكثير لمصر، فقد أعاد العبور الثاني الترابط لمرحلة الثورة ابتداء من عام 1952، وأعاد مصر إلى محيطها العربي، بعد أن أوشكت سياسة عام مختلف أن تحدث شرخا كبيرا في بناء استراتيجي حاسم من العلاقات البناءة استمر لعقود عدة. وهكذا سجل جيش مصر موقفا له أبعاده وتأثيراته الاستراتيجية على مستوى الخارج والعلاقات بين الشرائح داخليا، وهو ما ثبت من خلال الالتفاف الجماهيري الكبير.