دولة القطاع الوحيد المعافى

TT

قد لا يختلف لبنانيان على أن الأعباء الاقتصادية والمعيشية التي يواجهها وطنهم اليوم باتت بخطورة التحديات السياسية التي يتعرض لها، إن لم يكن أخطر على المدى البعيد.

كل آفاق العمل تضيق في وجه اللبنانيين. حتى الهجرة إلى الخارج، التي شكلت على مدى العقدين المنصرمين صمام أمان نسبي للاقتصاد اللبناني بحكم خفضها لمعدلات البطالة الداخلية، وتحولها إلى مصدر وافر للقطع الأجنبي المتدفق على لبنان، باتت فرصها مهددة بالتقلص بنسبة كبيرة في أعقاب التحفظات التي تبديها بعض دول الخليج حيال دخول «بعض» اللبنانيين إلى أراضيها... وذلك في وقت أصبحت فيه الدول الخليجية سوقا خارجية رئيسة لليد العاملة اللبنانية.

وسط مناخ سياسي متردٍّ في الداخل كما في دول الجوار (ولا جدال في العلاقة السببية بين الظاهرتين)، واقتصاد متعثر ازداد تباطؤا خلال الربع الثاني من العام الحالي، وعجز مستمر في ميزان المدفوعات (رغم تسجيله خلال النصف الأول من العام الحالي انخفاضا ضئيلا بلغت نسبته 2.7 %)، ووضع اجتماعي متفجر زاد من خطورته العبء السكاني والمعيشي والمالي الناجم عن لجوء أكثر من مليون نازح سوري إلى الداخل اللبناني، ونظام «ديمقراطي» فاقد للمناعة في وجه ضغوط حملة السلاح... وسط كل هذه السلبيات يبقى القطاع الوحيد المعافى في لبنان هو القطاع المصرفي.

أن يصبح لبنان دولة القطاع الواحد العامل خارج عثرات المرحلة وعراقيلها ظاهرة لا توحي بالاطمئنان إلى مستقبله الاقتصادي، خصوصا في وقت تتسع فيه الهوة القائمة بين مكوناته الاجتماعية بحيث لن يعد تحول لبنان الواحد إلى «لبنانين» احتمالا يقتصر على وضعه السياسي – المذهبي فحسب، بل يتجاوزه إلى وضعه الاجتماعي أيضا.

ربما صحت مقولة إن لكل قاعدة استثناء. والقطاع المصرفي اللبناني هو الاستثناء الإيجابي الوحيد في بلد تطغى عليه السلبيات في كل المجالات.

قد تكمن على هذا الصعيد المفارقة الوحيدة في إيجابيتها بين مفارقات النظام اللبناني الغارقة بالسلبيات: ظاهرة ذلك الافتراق المستمر بين أعبائه الاقتصادية والسياسية، من جهة، وأداء قطاعه المالي من جهة ثانية، فالليرة اللبنانية مستقرة بضمانة موجودات المصرف المركزي التي تقارب الخمسين مليار دولار (بين ودائع القطع الأجنبي واحتياطي الذهب) وبفضل سياساته المالية الرزينة التي أتاحت للقطاع المصرفي تملك سيولة من القطع الأجنبي تصل نسبتها إلى 45.3% من موجوداته النقدية.

انطلاقا من هذه الخلفية المالية حقق النشاط المصرفي في لبنان، خلال النصف الأول من العام الحالي، نموا نسبته 8%، وهي نسبة لافتة في مناخات العوامل السياسية والأمنية المتردية في الداخل والخارج.

إلا أن الأهم من ذلك في هذا السياق كان تحول القطاع المصرفي في لبنان إلى العمود الفقري لموازنة الدولة. ومع استمرار ارتفاع احتياطياته النقدية وتدفق السيولة الأجنبية على خزائنه، أثبت هذا القطاع أنه قادر - وراغب أيضا - في مواصلة تمويل مديونية الدولة.

ربما كان هذا الواقع وراء إحجام السياسيين اللبنانيين عن زج القطاع المصرفي في أتون صراعاتهم السياسية والمذهبية وإبقائه خشبة أمان لهم وللدولة.

ولكن موقف السياسيين لا يبرر بقاء قطاع يتمتع بهذا النفوذ الكبير في بلد صغير مثل لبنان من دون مخالب «سياسية»، ويكتفي بأن يقتصر دور السياسي على «النصيحة» فحسب.

ليس المطلوب، طبعا، تسييس القطاع المصرفي بينما إنجازاته تعود، بشكل أساسي، إلى تجنبه ألغام الحقل السياسي. ولكن منذ أن أخذ على عاتقه مسؤولية تمويل مديونية الدولة استحق هذا القطاع لعب دور توجيهي في لبنان يكون أقرب إلى دور مجموعات الضغط الأميركية منه إلى النصيحة فحسب.

في مرحلة تتقاطع فيها باطراد نزاعات اللبنانيين السياسية مع أوضاعهم الاقتصادية والمالية، وفي ظروف اجتماعية دقيقة حولت الشأن المعيشي إلى شغل اللبنانيين الشاغل، وفي وقت أصبحت فيه معظم أجهزة الدولة مجمدة أو مشلولة... أصبح القطاع المصرفي مطالبا، من موقعه المميز اليوم، بممارسة ضغوط «مالية» على الدولة بحيث تعيد تقويم أولويات المرحلة بواقعية وجدية، بعيدا عن «المحاصصة» السياسية والمذهبية التي تستأثر، وحدها، باهتمام السياسيين ونشاطهم اليومي.