علاقة غير طبيعية!

TT

أراقب بكل دهشة واستغراب وضع العلاقة الغريب والمفزع ما بين السياسي اللبناني وعلاقته بالنظام الحاكم في سوريا، فهي علاقة أشبه ما يمكن أن تكون بعلاقة الامتثال والانسياق، بكل ما في هذا الوصف من قسوة وفجاجة، وبكل ما فيه من وضوح وصراحة أيضا. فنظام الأسد لا يزال يحرك الساحة السياسية في لبنان، كأنه يذكرهم بالمسدس والسيارة المفخخة و«الكف»، وما خفي كان أعظم، وهي كلها أدوات وظفت بامتياز عبر الأزمان والأوقات لكي يجري «كسر» العين السياسية وإطاعة سياسات النظام في دمشق.

وهذا الأمر ولد لدى حكام دمشق قناعة تامة بأن «لبنان ومن فيه مرتع كامل لنا يحق لنا أن نفعل فيه ما نشاء، وأي (زعيم) يجرؤ على مخالفة رأينا وطريقنا سنزيحه». وقائمة الراحلين العظماء هي أبلغ دليل على صدق هذا القول بشكل لا يقبل النقاش، وهذه القائمة باتت وسام فخر لحرية لبنان المنشودة من براثن نظام الأسد. والأمر اللافت والمثير للتعجب والاستغراب أن هناك أدبيات لبنانية قديمة ومعروفة ومتواترة في فترة الأربعينات الميلادية من القرن الماضي وما بعد ذلك مليئة بآراء شديدة الحدة والوجع بحق سوريا والسوريين، مثل أن لبنان هو الجبل الشامخ والطبيعة الخضراء الساحرة الخلابة، وسوريا في المقابل هي الصحراء الجرداء القاحلة غير الطبيعية.. ولبنان هو الساحل الممتد المتسع الأفق وهو البحر اللامحدود، وسوريا على النقيض هي الداخل القاري الآسيوي.. ولبنان هو أيقونة العلم والثقافة والمعرفة والتعددية المتنوعة، وسوريا هي الرجعية والجهل والتخلف ونظام الحزب الواحد الضيق.. ولبنان هو صاحب المجد والتاريخ الذي يمتد لأكثر من ستة آلاف سنة، وسوريا هي الإسلام وهي العروبة وهي البداوة.. وأن اللبناني هو الفينيقي الذي خالط عبر الأزمان الثقافات والشعوب والحضارات لأمم العالم، أما السوري فهو نتاج جنس آخر تماما يمثل العربي والكردي والتركي وتشكيلة مختلفة.

تضاف إلى كل ذلك آراء أخرى على السياق نفسه كلها مليئة بالعنصرية والدونية والجفاء والاحتقار والإقلال من الآخر، وأن مجرد الانتقال من حاجز الحدود من لبنان يجب أن تسترجع معه ساعتك خمسين عاما للوراء حتى تحسب عنصر الزمن والوقت الذي دخلت عليه في سوريا.

وهذه النظرة العنصرية البغيضة في نفسية السياسي اللبناني التي تعامل بها مع السوري الطالب ومع السوري رجل الأعمال ومع السوري السائح ومع السوري الموظف، على أساس أنهم جميعا «جهلة» و«متخلفون» ولا يمكن أن يكونوا إلا «صناعا» لدى اللبناني، هي التي ولدت لدى طبقة حزب البعث الحاكم إحساسا هائلا ورغبة جامحة في صب الانتقام ودفع ثمن فاتورة الماضي كله، وهي حالة مرضية تصدر من نظام مارس الانتقام في شعبه ولن يبخل في الانتقام من شعب مجاور ما دامت توافرت الدوافع والأسباب والحجج التي تدبج لهذا الانتقام بكل أشكاله.

العلاقة غير السوية الموجودة الآن بين سوريا ولبنان هي نتاج طبيعي لوجود نظام الأسد المافيوي في سوريا والذي لا يحكم أي علاقة إلا بالولاء غير القابل للنقاش، أو أن يكون الموت هو الثمن المقابل، وحتى انتهاء وجود هذا النظام ستتغير معادلة العلاقة بين البلدين لتحكمها علاقات طبيعية بين أي بلدين متجاورين، تبنى على الاحترام والمصالح ورعاية حق الجوار والمصاهرة والمتاجرة والاستثمار والسياحة والتعليم والعلاج وغير ذلك من أواصر العلاقة والصداقة والتكامل والجوار الحميد والمتطور والمستدام.

كل المشاهد العجيبة التي تصدح بها شاشات التلفزيون للمهللين لنظام الأسد في لبنان هي مشاهد غير طبيعية وخارج السياق الآدمي والبشري المحترم، وهي مسألة غير قابلة أخلاقيا ولا منطقيا للاستمرار. ومع اقتراب مشاهد التمديد الرئاسي أو الانتخابات الرئاسية تزداد وتيرة وحرارة الحديث عن المسألة بشكل هستيري لا علاقة له باحترام العقل ولا المنطق أبدا. سوريا ولبنان يستحقان علاقة أفضل بين بعضهما البعض.. علاقة طبيعية لا أشباح فيها ولا تفجيرات ولا مسدسات. وبزوال المجرم عن المشهد ستزول معه المهانة والغمة إن شاء الله.