أبعاد التصعيد الفرنسي تجاه سوريا

TT

منذ بداية الأزمة السورية في مارس (آذار) 2011، كانت فرنسا سباقة ومبادرة في دعم المعارضة السورية إنسانيا ودبلوماسيا واقتصاديا، وبذلت الدبلوماسية الفرنسية جهودا جبارة من أجل التوصل إلى قرار دولي للتحرك ضد نظام الأسد. وكان وزير الخارجية الفرنسي السابق ألان جوبيه أول وزير أوروبي يعلن رأيه في الحكومة السورية على خلفية تعاملها مع المعارضين ويقول إنها «فقدت شرعيتها»، وكان ذلك في مايو (أيار) 2011، بل وذهب بعد ذلك إلى اعتراف بلاده بالمجلس الوطني السوري ممثلا رسميا للمعارضة. وفي ديسمبر (كانون الأول) 2012 استضافت فرنسا مؤتمرا دوليا لجمع الأموال لصالح المعارضة السورية، كما كانت فرنسا ناشطة جدا في حث الفصائل المختلفة للمعارضة السورية للتوحد وخلق حكومة بديلة لنظام الرئيس الأسد، علاوة على أن فرنسا كانت أول دولة غربية تعترف بالحكومة المؤقتة التي جرى تشكيلها أخيرا.

ورغم أن باريس في البداية كانت تعارض بحزم أي تدخل عسكري، مثل إنشاء منطقة حظر الطيران أو توريد أسلحة للمعارضة السورية، من دون الحصول على تفويض رسمي من مجلس الأمن الدولي، فإن المعارضة الفرنسية لتسليح المعارضة السورية أصبحت أكثر مرونة في مايو 2013، عندما أعلنت فرنسا وبريطانيا عن دعمهما لرفع حظر الأسلحة المفروض على المعارضة السورية المعتدلة. وإن أبدت باريس تحفظها مطالبة بضرورة توخي الحذر نتيجة لوجود جماعات إرهابية في المعارضة المسلحة، مثل جبهة النصرة التي تؤيد تنظيم القاعدة. لكن بعد اتهام النظام السوري باستخدام الأسلحة الكيماوية ضد مواطنيه في 21 أغسطس الماضي، أعلن الرئيس الفرنسي هولاند أن بلاده ستنضم إلى الولايات المتحدة في عملية عسكرية ضد الأسد، وصرح وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس لتلفزيون «فرنسا 2» بأنه «لا يوجد شك في أن النظام والمتواطئين معه هم المسؤولون عن استخدام الكيماوي.. وكل الخيارات مطروحة بما فيها التدخل العسكري»، وذلك رغم معارضة بريطانيا، وألمانيا، وغيرهما من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، للتدخل العسكري، وشدد الرئيس الفرنسي على أنه اشترط دعمه للعملية العسكرية بأن تكون محدودة ومتناسبة مع الوضع، وذلك بسبب المعارضة التي واجهها في الداخل، فأكثر من 64 في المائة من الفرنسيين يعارضون التدخل الفرنسي في سوريا.

وفي الواقع يعكس موقف فرنسا الداعم للمعارضة السورية والمطالب بعزل بشار الأسد، أبعادا ودلالات عدة، يأتي على رأسها الطموح الفرنسي التقليدي الرامي إلى لعب دور مؤثر على الساحة الدولية، وترميم مصداقية فرنسا في العمل كقوة عظمى في منطقة نفوذها التقليدي تاريخيا، سواء بمقترحات عسكرية أو إنسانية، خاصة في ظل أزمتها الاقتصادية الداخلية وتراجع مكانتها الأوروبية لصالح غريمتها التاريخية ألمانيا، ففرنسا تعرف الشرق الأوسط، لا سيما لبنان، كمنطقة ذات أولوية عليا لمصالحها. وبالتالي، فإن باريس قلقة بشكل كبير من تورط حزب الله في الحرب الأهلية السورية واحتمالات امتدادها إلى لبنان، كما يشكل تورط إيران في الأزمة السورية وامتداد نفوذ طهران إلى شرق المتوسط، مصدر قلق كبير لفرنسا؛ ذلك أن باريس ترى في المشروع النووي الإيراني تهديدا رئيسا للأمن في العالم، كذلك فإن فرنسا قلقة ومتوجسة من احتمال وقوع الأسلحة غير التقليدية التي يملكها النظام السوري في أيدي الجماعات الإرهابية، مما يهدد الأمن في المنطقة والعالم.

علاوة على ذلك، فرنسا ترى نفسها عنصرا فاعلا مهما على الساحة الدولية في مجال مكافحة انتشار أسلحة الدمار الشامل، وبالتالي فإنها تؤمن بأنه يجب توجيه رسالة قوية إلى سوريا من أجل ردع أي استخدام مستقبلي للأسلحة الكيماوية.

ومن ناحية أخرى، يعكس دخول الرئيس فرنسوا هولاند المفاجئ في التحالف مع الرئيس أوباما، التأثير المستمر لبقايا المحافظين الجدد في الخارجية الفرنسية، وبقاء الفريق الذي وضعه الرئيس السابق نيكولاي ساركوزي، في دوائر «كي دورسيه» (وزارة الخارجية)، متمسكا بقيادة الدبلوماسية الفرنسية التي يديرها لوران فابيوس، إذ لم يؤد تولي هولاند الرئاسة في فرنسا منتصف عام 2012 وتحول النظام من اليمين إلى اليسار إلى إحداث تغيير كبير في الدبلوماسية الفرنسية تجاه منطقة الشرق الأوسط، خصوصا فيما يتعلق بـ«السياسة العربية لفرنسا» التي دشنها الجنرال ديغول تجاه العرب وإسرائيل في الستينات الماضية.

ومن ناحية أخيرة، يشكل خروج بريطانيا مبكرا من التحالف الدولي ضد سوريا، بسبب سقوط الاقتراح بضربها، أمام مجلس العموم في 29 أغسطس (آب) الماضي، فرصة تاريخية لفرنسا للعودة بقوة إلى دور الحليف الأول للولايات المتحدة في القارة الأوروبية، بعد عقود من المناكفات الفرنسية للسياسة الأميركية في المنطقة والعالم.

لكن يبدو أن باريس وقعت في مطب القياس الخاطئ بالنسبة لتجربتي التدخل الفرنسي في أزمتي ليبيا ومالي؛ فمن الثابت نظريا وعمليا أن لكل تجربة ظروفها وخصوصيتها، فقد بدا موقف فرنسا محرجا ومعزولا عندما تراجع الرئيس الأميركي باراك أوباما عن قراره بتوجيه ضربة عسكرية لسوريا؛ إذ كانت فرنسا أول دولة غربية تطالب بإصدار قرار دولي بشأن الأسلحة الكيماوية تحت مظلة البند السابع، حيث إنه رغم استقبالها لوزراء الخارجية الغربيين في باريس من أجل الدفع نحو تبني قرار شديد اللهجة ضد سوريا فإن مساعيها تحطمت على صخرة التوافق الروسي - الأميركي، ففي 14 سبتمبر (أيلول) الماضي توصلت واشنطن وموسكو إلى اتفاق يقضي بتدمير الترسانة السورية من الأسلحة الكيماوية في موعد لا يتعدى منتصف العام المقبل، وبات من شبه المؤكد أن استخدام القوة ضد سوريا وفقا لقرار دولي يتطلب العودة ثانية إلى مجلس الأمن من أجل إصدار قرار آخر يشير بكل وضوح إلى إخلال دمشق بالتزاماتها الدولية بالنسبة لتدمير أسلحتها الكيماوية، وبضرورة استعمال القوة ضدها.

* كاتب ومحلل سياسي، نائب مدير تحرير مجلة «الديمقراطية» - مؤسسة الأهرام - مصر