ربيع ليبيا.. خطف رئيس الوزراء

TT

حدثان معبران حدثا في ليبيا الأسبوع الماضي؛ الأول اختطاف قوة أميركية خاصة لأبو أنس الليبي، الذي تتهمه واشنطن بالضلوع في تفجيرات نيروبي ودار السلام 1998 من بيته في العاصمة الليبية طرابلس، ومن دون علم الحكومة الليبية، والثاني بعده بأيام، حيث قامت مجموعة مسلحة بخطف رئيس الوزراء الليبي علي زيدان من غرفته بأحد فنادق العاصمة عند الرابعة فجرا، واقتياده لمكان مجهول قبل إعادة إطلاق سراحه بعد بضع ساعات.

إنهما حدثان جديران بالتأمل والتحليل؛ ففي الحدث الأول سقطت «سيادة الدولة»، وفي الحدث الثاني سقطت «هيبة الدولة»، والحدثان مجتمعان يشيران إلى عدم وجود الدولة، وأن وجود مسميات تشبه مؤسسات الدولة، كالحكومة والبرلمان والجيش والشرطة، لا يعني وجودا واقعيا لها على الأرض؛ فلم تزل المجموعات المسلحة هي الأقوى، وهذه المجموعات وإن حاولت شبه السلطة الجديدة في ليبيا أن تحتويها في مؤسسات يراد لها أن تمثل الدولة، فإنها دخلت في تلك المؤسسات مع احتفاظها بولائها الأقوى للميليشيات المسلحة التي تنتسب إليها في الأصل.

تقدّم ليبيا نموذجا صارخا لما سبق أن سماه كاتب هذه السطور بـ«استقرار الفوضى»؛ فالدولة هناك مختلطة بالمجموعات المسلحة، فغرفة عمليات ثوار ليبيا، وهي تنظيم مسلح جرى إدخاله في المؤسسات الرسمية بغرض احتوائه، ولكنها شرقت به، وتضارب التصريحات من شتى الجهات في ليبيا تجاه عملية اختطاف رئيس الوزراء خير دليل، ومحصلة المواقف والتصريحات كلها تشير إلى أن الفوضى هناك مستقرة والدولة غير موجودة ثم تتفرق الأحلام، فلكل فصيل سياسي سلاحه ومسلحوه وطموحه السياسي بين من يسعى لبناء ليبيا موحدة قوية مستقرة، وهم القلة، ومن تصبغ الآيديولوجيا طموحه بشتى ألوان الأصوليات.

إن ليبيا ما بعد 2011 لم تنجز حتى الآن هوية الدولة الوطنية الجديدة، ولم تزل دعوات الانفصال تنطلق من هذه المنطقة أو تلك بناء على انتماءات قبلية تهدف إلى تقسيم الدولة، سواء بشكل كلي أو جزئي، ولم تزل الميليشيات المسلحة الدينية تفرض سيطرتها بقوة السلاح على المشهد العام في كامل التراب الليبي.

قبل الاستفاضة في التعليق على الحدثين، ينبغي التأكيد على أن ليبيا تمثّل نموذجا خاصا في دول ما كان يعرف بالربيع العربي، شأنها في ذلك شأن بقية تلك الدول، وعلى الرغم من محاولات «توحيد المشهد» التي روّج لها الكثيرون في بدايات 2011، فإن تمايز المشاهد أثبت نفسه كمعطى واقعي يجب التعامل معه، ونفي أوهام التشابهات التي دفعت إليها الأحلام الوردية والأماني الخضراء.

ولإعادة توصيف ما جرى في ليبيا آنذاك، فإنها لم تكن ثورة بالمعنى الحديث للكلمة، وإنما كان الأمر صراعا سياسيا وعسكريا بين جناحين في سلطة معمر القذافي مثّل هو وأتباعه المخلصون الجناح الأول، ومثل الجناح الثاني بعض رجالات القذافي المنشقون عليه كالسيد مصطفى عبد الجليل، الذي كان وزيرا لديه في الجانب السياسي، وعبد الفتاح يونس الذي كان رفيق السلاح للقذافي منذ أول يوم لانقلابه على الملك السنوسي في الجانب العسكري.

مع احتدام الصراع وضخامة التدخلات الأجنبية وتسليح المجموعات القبلية والدينية من بعض دول الجوار، كالسودان، وتفشي تلك المجموعات، فإن القذافي كان قاب قوسين أو أدنى من دخول بنغازي والقضاء على خصومه، وهنا جاء تدخل أجنبي أكبر وأضخم، بحيث دخلت قوات حلف الأطلسي في الصراع الدائر آنذاك، وقصفت بكل قوة القوات الموالية للقذافي حتى دخلت قوات خصومه طرابلس العاصمة وصولا لمقتله، بعدما جرى أسره في ظروف غامضة.

إذن فنحن كنا أمام مشهد تاريخي كبير من دون شك، ولكنه لا يمكن تحت أي معيار علمي أن يُسمّى ثورة، وقد تجلى المشهد حاليا عن «استقرار الفوضى». وما يمنع الحرب الأهلية هناك ليس الوعي الحضاري المتقدم، بقدر ما هو توازن هش بين الأطراف المتنازعة، ولم يمتلك أحد منها بعد قوة تدفع به لمحاولة فرض مشروعه ورؤيته على الجميع، ومثل هذا الوضع إن استمر فهو لمزيد من الفوضى، وإن انفجر فهو لحرب أهلية.

تختلف ليبيا أيضا في انتخاباتها الأولى بعد 2011؛ لم تفز فيها التيارات الأصولية، كالإخوان المسلمين، بل فاز تيار وطني متعدد وواسع شمل أغلب فئات الشعب الليبي، ولكن الأصوليين لم يرضوا بالهزيمة، بل عاودوا الهجوم على المؤسسات الرسمية تحت تهديد السلاح، وفرضوا «قانون العزل» للتخلص من خصومهم السياسيين، وأجبرت تلك المؤسسات على الرضوخ.

وأمر آخر، وهو أن التحالف الذي شهدته مصر بين جماعة الإخوان المسلمين وجماعات العنف الديني، كتنظيم القاعدة، الذي ظهر بشكل أبين وأظهر بعد 30 يونيو الماضي، كان حاضرا في ليبيا من قبل ومن بعد، بمعنى أن تحالف الإخوان المسلمين في ليبيا مع الجماعات المسلحة كان ظاهرا وجليا. وعلى الطريقة الإخوانية، فقد كان إخوان ليبيا يوجهون هذه الميليشيات لخدمة مصالحهم وتهديد خصومهم وتقويض أي محاولة لبناء دولة حديثة ما لم يضمنوا مكانتهم، بل وقيادتهم لها.

إن «غرفة عمليات ثوار ليبيا»، ومثلها «لجنة مكافحة الجريمة» تمثل تطورا ينبغي رصده لطبيعة الميليشيات المسلحة التي تكوّنت في حرب القضاء على القذافي ونظامه، وليبيا تمثل نموذجا خاصا من حيث إنها لم يكن فيها دولة بالمعنى الحديث زمن القذافي، ولكن كان بها مؤسسات ضرورية لضبط النزاعات بين الناس وبسط الأمن تحت مسميات قذّافية، حسبما كانت توحي له تهويماته، وهذه المؤسسات قُضي عليها أثناء الصراع المسلح، وبالتالي كانت الأجواء مفتوحة لتشكيل سلطات صغيرة لكل من تملّك سلاحا وجمع أكثر عددٍ من المقاتلين.

يوضح هذا السياق أن المهمة شديدة الصعوبة بليبيا في أي محاولات للخروج من حالة «استقرار الفوضى»، ذلك أنه ليس ثمة دولة ذات مؤسسات راسخة، كما في مصر، يجري الرجوع إليها لإعادة التوازن للدولة، كما لم تُبنَ مؤسسات حديثة يُعتمد عليها في بناء دولة جديدة، ومحاولات إدماج المقاتلين المسلحين عبر تشكيلاتهم لا كأفراد أبانت عن فشل ذريع.

ختاما، لدى ليبيا الكثير مما يمنحها تميزا عن غيرها من دول الاحتجاجات، ولكنه مطمور تحت سلاح الميليشيات الدينية والدعوات الانفصالية، وما لم تجد سبيلها للخلاص، فسيطيل «استقرار الفوضى» المقام فيها.

[email protected]