وقفة مع «جنيف 2»

TT

لا شك أن القضية السورية دخلت في تعقيدات محلية وإقليمية ودولية، وأن معالجتها أصبحت أكثر تعقيدا من أي وقت مضى، والأساس في هذه التعقيدات كان سياسة النظام الذي اختار منذ اليوم الأول خيار الحل الأمني - العسكري طريقا، يقوم على مبدأ إخضاع الشعب وإفشال ثورته من أجل الحرية والكرامة والديمقراطية، والتي بدأت سلمية واستمرت طويلا على هذا المسار، قبل أن يجري إكراهها وإدخالها عبر التسلح والعسكرة على خط النظام في المواجهة المسلحة.

وكان للدعم العسكري والاقتصادي الذي قدمه حلفاء النظام الدوليون والإقليميون، وأبرزهم روسيا والصين وإيران، إضافة إلى حزب الله والميليشيات العراقية، دور كبير في تعزيز مسار النظام ونهجه في استمرار خيار الحل الأمني - العسكري، بل إن ذلك ساهم في إفشال أي مبادرة محلية أو إقليمية أو دولية لحل سياسي للقضية السورية، وهذا أطال أمد الأزمة في سوريا، وزاد من تكلفتها الإنسانية والمادية، وخلق لها تداعيات إقليمية ودولية، ما زالت تتزايد بصورة مستمرة.

غير ان دعم النظام ودمويته، عجزا عن تأمين نصر له في الصراع مع الثورة، والأخيرة بفعل ضعف قياداتها وارتباكاتها، ومحدودية الموارد المتوفرة، عجزت هي الأخرى عن حسم الصراع مع النظام في وقت ما زالت فيه القوى الأساسية للثورة مصرة على المضي في مطالبها من أجل الحرية والكرامة وبناء دولة ديمقراطية بديلة عن النظام الحالي، توفر العدالة والمساواة لكل السوريين.. الأمر الذي دفع إلى تحرك أكبر للمجتمع الدولي لمعالجة القضية السورية لا سيما بعد مجزرة الكيماوي، التي ارتكبها النظام في غوطة دمشق في أغسطس (آب) الماضي.

ورغم الاختلال الذي جسده التعامل الدولي مع الملف الكيماوي للنظام الذي نقل الموقف من معالجة إجمالي الوضع والوصول إلى حل شامل للأزمة بمعالجة أحد جوانبها (ولعله الأقل أهمية فيها) فقد جرى تعزيز المساعي الدولية لعقد «جنيف 2» بهدف الدخول في حل سياسي شامل للوضع السوري على أساس وثيقة «جنيف 1»، وخلق آليات تنفيذية أساسها حكومة انتقالية بصلاحيات كاملة، تدير المرحلة الانتقالية، وتعالج ملفاتها الشائكة والمعقدة.

وكان من الطبيعي أن يتصادم مسار «جنيف 2» مع موقف النظام وخياره في الحل الأمني - العسكري، غير أنه وفي ظل توقعه رفض المعارضة ومسايرة الضغوط الدولية، ورغبته في كسب الوقت على نحو ما كانت تجربته مع المبادرات السياسية السابقة الهادفة إلى معالجة الوضع دفعته للقبول بالذهاب إلى «جنيف 2» مع إبداء مزيد من الاشتراطات، بلغت ذروتها بالقول إنه لن يذهب إلى «جنيف 2» للتفاوض على انتقال السلطة، وهو لن يحاور الائتلاف الوطني، ولا الجيش الحر، الأمر الذي أظهر النظام وكأنه ذاهب إلى جنيف ليحاور نفسه.

لقد كرست المعارضة، من الائتلاف الوطني إلى أطرافها الأخرى، مأزقا للنظام عبر موافقتها على الذهاب إلى «جنيف 2» رغم الاشتراطات التي أعلنتها ولا سيما اشتراطات الائتلاف الوطني التي ركزت على نقاط أبرزها إجراءات عملية تجري قبل بدء المؤتمر من شأنها إثبات الطابع الانتقالي للمؤتمر، وضرورة توفير تغطية عربية ودولية له، ووجود ضمانات تثبت مصداقية المؤتمر وحسن تطبيق نتائجه، وكلها اشتراطات قائمة على التجربة العملية لسياسات النظام في خيار الحل الأمني - العسكري وفي سلوكياته في إفشال مبادرات الحل السياسي المحلية والإقليمية والدولية الكثيرة.

ولعله من الطبيعي القول إن سلوكيات النظام واشتراطاته سوف تؤخر انعقاد «جنيف 2»، وهي يمكن أن تؤدي إلى فشله في حال انعقاده، وسوف تستغل اشتراطات المعارضة (رغم أحقيتها ومشروعيتها) من جانب النظام لإفشال المؤتمر، غير أن ذلك لا ينبغي أن يغير أو يبدل من المساعي الدولية نحو حل سياسي للوضع السوري، والتي ينبغي أن تتكثف للضغط على النظام وإجباره على التخلي عن اشتراطاته، واتخاذ موقف مؤيد لاشتراطات ومطالب المعارضة، التي لا يمكن النظر إليها من الزاوية التي ينظر منها إلى اشتراطات النظام بسبب من طبيعتها المتساوقة مع مطالب السوريين في الحرية والكرامة والتغيير، ولأنها تحمل رسائل تطمين للشعب السوري الذي عانى من قتل ودمار وتهجير النظام، وتساعده في وقف نمو التشدد والتطرف بأنواعه وأشكاله، وهي تشكل استجابة تتناغم مع المساعي الدولية لحل سياسي، يمكن أن يوفر سفك دماء مزيد من السوريين ومن دمار بلدهم وعودة المهجرين إلى بيوتهم.

خلاصة القول أن «جنيف 2» إذ فتح الباب نحو حل سياسي للوضع السوري، فلا بد أن تستجيب مجرياته ونتائجه للطموحات الأساسية للسوريين في الحرية وبناء نظام بديل عبر حكومة انتقالية، وهذا سيعالج القضايا الأساسية في الواقع السوري الراهن ويفتح الباب لبناء إرادة سورية قادرة على معالجة قضايا المستقبل أيضا.