العرب والتقارب الأميركي ـ الإيراني

TT

من دون خوض في استكشاف دوافعها وغاياتها، وبغض النظر عن مآلاتها وفرص نجاحها وتطورها إلى إجراءات ومواقف عملية على طريق تضييق الهوة الشاسعة والعميقة بين طرفيها من عدمه، ربما لا يجادل أي مراقب موضوعي في أن مبادرات التقارب المتتابعة والمتبادلة بين واشنطن وطهران خلال الآونة الأخيرة كان لها وقع مدوٍّ على عواصم شتى في منطقة الشرق الأوسط، لا سيما تلك التي لا تزال عالقة بينها وبين الجمهورية الإسلامية ملفات وقضايا خلافية شائكة، في الوقت الذي لا يبدي فيه نظام ولاية الفقيه أي نوايا جادة أو استعداد حقيقي للتخلي عن إصراره المحموم على المضي قدما في تنفيذ مشاريعه ومخططاته الإقليمية المثيرة وبلوغ تطلعاته الاستراتيجية الطموحة ومواصلة برامجه المريبة لتطوير قدراته التسليحية غير التقليدية.

فمن جانبها، تعكف إسرائيل منذ تأسيسها، على توظيف الخلافات العربية - الإيرانية المزمنة وفق أفضل نحو ممكن لخدمة نواياها وطموحاتها الاستراتيجية الإقليمية، سواء بقصد كسر حاجزي الحصار والقطيعة اللذين كانت تفرضهما الدول العربية على الدولة العبرية منذ إعلان قيامها في عام 1948 من خلال تعميق أواصر التعاون، على المستويات كافة، مع دول المحيط أو الجوار العربي غير العربية كإيران وتركيا وإثيوبيا، أو لغرض تضييق الخناق على طهران ودعم استراتيجية تل أبيب وواشنطن الرامية إلى محاصرتها وتقويض طموحاتها التسليحية وإجهاض تحركاتها الإقليمية.

فخلال سني الخمسينات والستينات من القرن الماضي، تلاقى الثالوث الإيراني - الإسرائيلي الأميركي بغية التصدي للمد الشيوعي في منطقة الشرق الأوسط وحماية المصالح الأميركية بها، لكنه في الوقت ذاته تآلف ونسق جهوده من أجل كبح جماح ما كانوا يعتبرونه «راديكالية عربية» جسدتها الطموحات الإقليمية والتوجهات القومية العروبية لمصر في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، علاوة على بروز تحدى عراق ما بعد انقلاب عام 1958، والحيلولة دون تهديد تلك التحديات مجتمعة لمصالح ثلاثتهم في واحدة من أهم بؤر العالم.

وبمرور الوقت ومع تعاظم المصالح وتفاقم مستوى التعاون والتنسيق بين البلدين، أضحت إيران هي المصدر الرئيس لصادرات النفط الإسرائيلية، خصوصا إبان حربي 1967، و1973 ضد العرب، حيث زودت إيران البهلوية خلالهما تل أبيب بأكثر من 90% من احتياجاتها النفطية. ولم تتردد إيران الخمينية من بعد ذلك في الاستعانة بسلاح إسرائيلي وأميركي إبان حربها الضروس ضد صدام حسين خلال الفترة من 1980 إلى 1988 على نحو ما افتضح أمره في عام 1986 فيما عرف وقتذاك بـ«إيران غيت» أو «إيران كونتر».

واليوم، لا تتورع تل أبيب عن استثمار تجدد الخلافات العربية - الإيرانية وتعقدها، بالتزامن مع قلق العرب من التقارب الأميركي - الإيراني المحتمل، توخيا للإبقاء على أجواء التوتر والجفاء بين طهران وواشنطن وتكثيف ضغوط حلفاء الأخيرة بالمنطقة على إدارة أوباما لحملها على العدول عن مساعيها الرامية إلى إذابة الجليد بينها وبين طهران من خلال رفع تكلفة وتبعات أي خطوة عملية أميركية على هذا الدرب الوعر.

وبموازاة ذلك، لم تكف دوائر إعلامية وسياسية إسرائيلية عن الترويج لمزاعم من قبيل انطلاق حوارات ومشاورات استراتيجية في السر بين مسؤولين إسرائيليين وعرب في إطار التنسيق الاضطراري المشترك وتوحيد الجهود بين الجانبين بشأن تقويض الطموحات الاستراتيجية الإيرانية، خصوصا تلك المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل وأدوات توصيلها من الصواريخ الباليستية المتطورة.

وفي حين ادعى الرئيس الإسرائيلي شيمعون بيريس غير مرة أن دولا عربية طلبت من بلاده التعجيل بعمل عسكري من شأنه أن يجهز على برامج إيران الصاروخية والنووية أو يعيدها سنوات إلى الوراء على الأقل، لم تتورع صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية عن نشر شائعات حول غزل سياسي قد جرى بين إسرائيل وعدة دول عربية خلال الاجتماعات الأخيرة للجمعية العامة للأمم المتحدة بلغ مستوى الالتقاء والتحاور بين مسؤولين ودبلوماسيين إسرائيليين مع نظراء لهم من دول عربية، وذلك بعد أن تخللت فعاليات تلك الاجتماعات إشارات واضحة لتقارب أميركي - إيراني يلوح في الأفق، على شاكلة لقاء وزير الخارجية الأميركي جون كيري مع نظيره الإيراني محمد جواد ظريف، وتأكيد الرئيس أوباما خلال كلمته أمام المشاركين في الاجتماعات على تفهم بلاده لحق إيران في امتلاك برنامج نووي للأغراض السلمية.

ورغم أنه يصعب الوثوق بتلك الروايات الإسرائيلية مجتمعة أو التعويل عليها، ليس فقط لأنها تنبع من مصدر وحيد، مشكوك في صدقيته وخبث نواياه من الأساس، ولكن أيضا لأنها تأتي في سياق الاستراتيجية الإسرائيلية المغرضة والهادفة إلى تفزيع العرب من إيران واستنفار العرب والعجم ضدها، فضلا عن الحيلولة دون حدوث أي تقارب استراتيجي بينهم وبينها، قد يفضى بدوره إلى الإخلال بالتوازن الاستراتيجي الراهن في المنطقة، الذي يصب في مصلحة إسرائيل بالأساس، كما يتمخض عن تحديات متنوعة ولا يستهان بها أمام مشاريع إسرائيل الإقليمية.. رغم ذلك، فإن استراتيجية دعائية من هذا النوع، ربما لا تخلو بالضرورة من رسائل ودروس غاية في الأهمية والخطورة في آن.. ذلك أن صم إيران آذانها عن دعوات الحوار والتفاهم العربية المتجددة، وإصرارها على التغريد خارج السرب وتحدى محيطها الإقليمي والمجتمع الدولي عبر المضي قدما في مواصلة تطوير أنشطتها النووية وبرامجها الصاروخية، علاوة على الاستمرار في مباشرة التدخل السافر والتخريبي في شؤون جيرانها، قد أفسح المجال أمام أطراف إقليمية مغرضة لا هي بالعربية ولا بالإسلامية كإسرائيل، لاستغلال هذا المناخ والاستفادة منه.