الدولة الكردية.. متى وأين؟

TT

أكراد الشرق الأوسط، وفي إحصاءات غير رسمية، يتراوح عددهم بين 30 و40 مليون نسمة في أماكن انتشارهم الرئيسة؛ تركيا والعراق وسوريا وإيران. مطالبهم التاريخية تمحورت حول حق تقرير المصير المرتبط دائما بالدولة الكردية وحقها في الوجود. قياداتهم السياسية تحركت أكثر من مرة لتحقيق الحلم، لكنها دفعت الثمن باهظا بعدما وقعت في مصيدة تضارب المصالح وتصفية الحسابات بين الكبار والصغار عند رسم الخرائط وترسيم الحدود بين دول المنطقة في أكثر من حقبة تاريخية.

رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني كررها اليوم مرة أخرى؛ «كردستان الكبرى» هي الهدف عندما تسنح الظروف، هو ليس مشروع القريب العاجل، لكن لا شيء مستحيل. المشهد يتضح أكثر؛ قيام كردستان الكبرى لن يتم إلا بمراجعة الخرائط وإعادة توزيع الأراضي وتغيير بنيتها الدستورية والسياسية والجغرافية، والتطورات في شمال العراق تلخص حقيقة المسار.

تجربة الدستور العراقي عام 2005 ودستور إقليم كردستان المعلن عام 2007 تعطي الإقليم الحق في الانفصال ساعة ما يشاء عن دولة العراق الاتحادية، لكن عدم انفصاله حتى الآن، في رأينا، سببه ليست الضغوطات الإقليمية والدولية؛ بل انتظار تطورات المشهد على الساحات التركية والسورية والإيرانية ليتم التحرك على ضوء هذه المستجدات. وهذا ما نفهمه من كلام بارزاني نفسه حين يقول إنه من الطبيعي أن تكون للشعب الكردي دولته وإنه من الضروري انتظار الوقت الملائم لتحقيق هذا المطلب، «فنحن نريد أن يتم ذلك بشكل طبيعي وبالحوار مع الدول التي تتقاسم كردستان».

لا يمكن بعد هذه الساعة إخفاء حقيقة أن ولادة الدولة الكردية بحكم ذاتي مستقل أو المشروع الأكبر بعيد المدى تعني في أحسن الأحوال الرهان على استمرار وتزايد الأزمات الداخلية في هذه البلدان، وعلى أزمات أخرى بين دول الجوار الكردي في علاقاتها الثنائية تقود إلى تباعد وتضارب في المصالح يفتح الأبواب أمام ظهور الدولة الكردية. اليوم هو يوم الفيدراليات، وغدا هو يوم الكونفدراليات، وبعدها الانفصال عن بلدان وجودهم وإعلان الدولة.

بارزاني، الزعيم الكردي الأقوى كما كرسته انتخابات الإقليم الأخيرة، يعرف أن المهمة التي تنتظره في غاية الصعوبة، لكنه لن يتراجع عنها حتى لا يتهم بالتفريط في تحمل المسؤولية التاريخية أمام شعبه. قوله إن البديل المرتقب في سوريا يجب أن يأخذ بعين الاعتبار مطالب وحقوق الأكراد، و«إننا دربنا شبانا أكرادا سوريين على القتال، وإننا سنقاتل إلى جانبهم إذا ما اضطررنا إلى ذلك»، أعاد توضيحه بالإشارة إلى أن معركتهم ليست معركة اليوم، وإلى ضرورة الوقوف على مسافة واحدة من الجميع في سوريا حتى لا يورطوا الشعب الكردي «في حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل».. فلماذا كل هذه الاستعدادات ومتى وكيف سيتم استخدامها إذن؟

بارزاني حذر كل من يعتدي على أكراد سوريا، لكن الرسالة الحقيقية موجهة إلى إيران وتركيا أيضا. فهل يفاجئنا في مؤتمر أربيل المرتقب بتعديل الطروحات والمواقف التي أطلقها قبل ثلاثة أشهر حول التهدئة والتمسك بالحوار مع القيادات السياسية في بغداد ودمشق وأنقرة وطهران بوضع خارطة طريق كردية مغايرة، وإعلان أن مشروع كردستان الكبرى هو الهدف الاستراتيجي الجديد، وأن الدعوات إلى الحكم الذاتي تجاوزها الزمن أمام التجربة العراقية الفاشلة في العقد الأخير.

كلام مسعود بارزاني هذا كان نيجيرفان بارزاني رئيس حكومة إقليم كردستان العراق قد مهد له بالتذكير بأن خطوط الاتصال مع بغداد وحكومة المالكي باتت شبه مقطوعة، وأن الذي يهدد وحدة العراق اليوم هو المالكي نفسه، وأن أكراد العراق حصلوا على الفرصة التاريخية لإعلان دولتهم، لكن هناك اعتراضات مهمة يتقدمها إقناع أنقرة التي وضعت دائما موضوع الدولة الكردية المستقلة في شمال العراق على حدود الخط الأحمر الصعب تجاوزه، وأن «إعلان الدولة مسألة صعبة، لكنه ليس مستحيلا، فالدول الكبرى من مصلحتها اليوم قيام هذه الدولة».

بارزاني قد يذكر الجميع بأن المنطقة تعيش ظروفا يستحيل معها إلغاء الدور والموقع والحلم الكردي فيها، ونحن نعرف أن «الجيوبوليتيك» متوافر أمام الأكراد، وأن ما يحتاجونه الآن هو «الجيوستراتيجيك»، لكن قيادات أربيل تعرف أيضا أن الظروف والمعطيات تغيرت عن ظروف عام 2003 في العراق، وأن الجبهات تتشابك وتتداخل وتزداد تعقيدا أيضا.

الأكراد قطعوا أشواطا في مسألة تكريس الهوية والاعتراف الإقليمي والدولي بها واستعداد البعض لتغيير الخرائط، لكنهم يعرفون أيضا صعوبة رضوخ الدول الأربع لضغوطات باتجاه إعادة تركيب بنيتها الدستورية والسياسية.

بارزاني يعرف أكثر من غيره صعوبة الاستمرار في لعبة الازدواجية والاستفادة من التناقضات وتضارب المصالح بين العديد من دول المنطقة، وهو ربما لذلك قرر التحرك والقفز إلى الأمام هذه المرة، لكن كثيرا من رسائله الأخيرة تحتاج إلى توضيح ومتابعة، فهي أبعد وأهم من أن تكون موجهة إلى الداخل السوري، أو من يحاول استهداف وضرب أمن واستقرار إقليم كردستان.