الوزير والعمدة في سوق الصين العظيم

TT

توجه جورج أوزبورن وزير مالية بريطانيا، وبوريس جونسون عمدة لندن، إلى بكين عارضين بريطانيا للبيع في سوق الصين العظيم. وزير المالية، وهو ثاني أقوى منصب سياسيا، والأول شعبيا، لأنه مهندس الاقتصاد القومي ويمسك برباط كيس المال، نزل الصين كبائع متجول لا يخجل من فرد البضاعة أمام الزبون.

عمدة لندن يحاول بيع العاصمة وما فيها من خدمات تتميز بها لندن عن مدن العالم.

الصين، نظريا، أكبر سوق في العالم، لكن ميزان الصادرات والواردات البريطاني مختل بـ32 بليون (مليار) دولار لصالح الصين. فالصين نادرا ما تستورد سلعا لأنها تنتج كل شيء بـ10 - 20 في المائة من تكلفته في أي مكان. وقد استوعب اقتصاديو بريطانيا المتغيرات العالمية، وبدلا من محاولة تصدير المنتجات البريطانية للصين يحاولون جذب المستثمر الصيني لشراء عقارات ومصانع وبناء محطات توليد طاقة نووية وثلثي أسهم مطار جديد في منطقة مانشستر الصناعية (الشركات الصينية تمتلك نسبا ضخمة من أسهم الشركات المالكة لكثير من مطارات بريطانيا وموانئها).

وعد أوزبورن بتسهيل حصول الطلاب والسياح ورجال الأعمال الصينيين على فيزا دخول بريطانيا، وتعديل لوائح الإعفاءات الضريبية للمستثمرين، وتسهيلات دخول وخروج الأموال الصينية للمشاريع. وشرح عمدة لندن للصينيين أن لوائح مراقبة البنوك ووكالات الاستثمار في لندن هي الأكثر مرونة وتسامحا في العالم.

ما تفقده الخزانة من دخل ضرائب أرباح المستثمر الصيني ستعوضه من ضرائب الدخول لعشرات الآلاف الذين توظفهم هذه الشركات وضرائب القيمة المضافة عند شرائهم للسلع والخدمات.

أما إذا اعتلى الوزير فرس الوطنية وتوارى العمدة وراء درع الدفاع عن اتهامات العمالة للأجانب، فسيستثمر الصينيون فائضهم المالي (ويقدر بتريليونات الدولارات) في بلدان أخرى ويحرم السوق البريطاني من فرص العمل التي كانت الاستثمارات الصينية توفرها.

مباني لندن التاريخية، كتحف معمارية يزورها السائحون، سواء كانت قصورا فارهة، أو أوتيلات شهيرة كـ«الدوريشستر»، و«غروفنر هاوس»، أو محلات كـ«هارودز»، أو أندية رياضية شهيرة كمانشستر يونايتد، وفولهام؛ يمتلك معظمها العرب، والروس، والأميركيون.

مطار هيثرو تمتلكه شركة إسبانية، وأكبر شركات توفير الطاقة للمنازل والمصانع فرنسية وإيطالية. وسبع من شركات التليفون المحمول العشر ومعظم مؤسسات الاتصالات غير بريطانية. لم تفقد بريطانيا عظمتها، أو تنقص حرية مواطنيها من امتلاك الأجانب للعقارات والمطارات ومحطات الطاقة ومفاتيح الاقتصاد.

والقوانين تمنع الحكومة من تحديد الأسعار. فقط قوة السوق البريطاني وتوازناته الطبيعية واتساع المنافسة تحدد قواعد اللعبة.

قارن ذلك بضغوط المصريين (سواء المثقفون منهم والتقدميون من قادة ثورة 30 يونيو/ حزيران، التي اقتلعت الآيديولوجيا الفاشية) على لجنة صياغة الدستور لحرمان غير المصريين من تملك أدوات الإنتاج والشركات الكبرى.

ولهذا أسوق للمصريين نموذج جهود ساسة بريطانيا في جذب الاستثمارات الخارجية للبلاد وتطوير أنماط أنشطة السوق لتواكب متغيرات الاقتصاد العالمي.

فركود المصريين في مستنقع اقتصاديات النمط السوفياتي من القطاع العام وملكية الدولة وراء التخلف في معظم مجالات الحياة. فنظام انقلاب 1952 استأصل عبقرية الابتكار الاقتصادي الفردي بتقليد النمط السوفياتي لضمان ولاء (أو التحكم في حياة) أجيال شبت معتمدة على الدولة الأبوية في كل الخدمات والحاجات التي يوفرها السوق المفتوح أو الأفراد ذاتيا في بقية أنحاء الدنيا وفي مصر قبل تأميم الصناعات والخدمات في 1960.

ثلثا الناتج القومي البريطاني مصدره المنتجون الصغار بمنشآت موظفوها أقل من خمسة أشخاص، غالبا أسرة واحدة. نصف القطاع مكون من شخص أو شخصين (self-employed)، أي موظفين ذاتيا (لا يحصل الشخص على إجازة مدفوعة أو مرضية لأنه موظف عند نفسه). عندما وصف نابليون بونابرت الإنجليز «بأمة من أصحاب الدكاكين» كانت بريطانيا تقود الثورة الصناعية التي لم تولد في فرنسا حيث يفضلون الوظيفة على العمل الحر، وقوانينها حمائية لا انفتاحية.

الوظائف تخلقها حاجة السوق لا الدولة.

احتاجت مصر إلى 220 ألف فرصة عمل جديدة سنويا (إضافة للشاغرة بالوفاة والتقاعد) حسب أرقام عام 2010 الذي شهد خلق 173 ألف فرصة عمل جديدة ليست بينها واحدة في القطاع العام أو الدولة، فكلها في القطاع الخاص وفرها رجال أعمال يسميهم الثوار بـ«الفلول». ولم تشهد فترة حكم الإخوان ورئاسة مرسي خلق فرصة عمل واحدة، بل ضاعت 200 ألف وظيفة مباشرة في السياحة، وضعفاها في الصناعات المرتبطة بها.

تطوير الراحل أنور السادات للاقتصاد بالانفتاح (عشرون عاما قبل غورباتشوف في روسيا) كان استيعابا لتجربته كناشط سياسي في الأربعينات في ذروة انتعاش الاقتصاد المصري الذي أسس قواعده طلعت حرب باشا في عصر نهضة مصر في ظل حكومة سعد زغلول باشا 1922 (ولا أتوقع أن يصل الدستور الذي يعدونه الآن إلى حتى نصف عظمة وتقدم وديمقراطية دستور 1923). لم تمتلك الدولة إلا مستشفيات ومدارس (بجانب المدارس والمستشفيات الخاصة) لخدمة غير القادرين، أما كل المصانع ووسائل الإنتاج فكانت قطاعا خاصا. عبقرية طلعت حرب الاقتصادية سبقت وزير مالية بريطانيا بتسعة عقود: لماذا تتحمل الخزانة مصاريف إرساء قواعد المشاريع الاستثمارية؟ فليتحملها المستثمر الأجنبي وتستورد البلاد فائضا نقديا وتغريه بإعفاءات من ضرائب الأرباح، وسيخلق فرص عمل تدر على الخزانة ضرائب الدخل وترويج الاقتصاد باستهلاك العاملين.

ما توفره الخزانة من مشاريع الاستثمار تنفقه في تطوير البنية التحتية الأساسية والمواصلات (وبدورها تجذب مستثمرين آخرين).

هل يقرأ المصريون اليوم صفحة من كتاب طلعت حرب باشا ويبيعون القطاع العام (بمنح نصف الأسهم للعاملين والبقية في السوق، كمصلحة البريد البريطانية هذه الشهر) ويدخلون سوق القرن الـ21؟

هل يجذبون المستثمر الأجنبي بعملته الصعبة، ودخل الخزانة يطور البناء التحتي والتعليم الذي تراجع عن مستواه قبل ثورة 1919؟.. أم يعودون القهقرى إلى النظام الناصري بالنمط الاقتصادي الذي أودع الاتحاد السوفياتي مثواه الأخير قبل أن يكتشف غورباتشوف الجثمان بعقدين؟