بيكاسو عميل أميركي؟

TT

عشت عمري وأنا أكتب عن الفنون وأتردد على المعارض وأتعرف على الرسامين وأحتفظ بعلاقات طيبة معهم وأحرص على اقتناء اللوحات، حسب إمكانياتي، لتعليقها على جدران بيتي وتعويد الولدين على تذوق الفنون واحترامها. لكن لم يحصل لي أن وقفت أمام عشرات اللوحات الأصلية لبيكاسو، مرة واحدة وتحت سقف واحد.

حدث ذلك أثناء زيارتي لمتحف الفن الحديث في نيويورك، الذي يختصرون اسمه إلى «موما». وفيه يشعر المرء بثراء تلك البلاد التي يمكن لمتاحفها أن تجمع أروع الثروات الفنية وأن تدفع فيها ملايين الملايين. إن أميركا، الأمة ذات التاريخ القصير وأكبر دولة رأسمالية في العالم، ترقد أيضا على كنز من التراث الثقافي الذي اشترته بفلوسها. دولة هي الأكثر إنتاجا واستهلاكا وتصديرا للمأكولات والمشروبات، تسعى لأن تشتري غذاءها الروحي بفائض أرباحها وبأريحية محسنيها.

لم أنبهر، فحسب، لأن تلك اللوحات اقتادتني من يدي إلى عوالم لونية وشكلية ساحرة، وإنما لأنني عثرت فيها على مصادر التأثير التي طبعت أعمال كثير من فنانينا المعروفين والرواد. وقد تذكرت أن ابنة الفنان الكبير جواد سليم، أنجزت أطروحة في جامعة بريطانية عن تأثيرات بيكاسو على أعمال أبيها. لقد هضم المبدع العراقي الاتجاهات الغربية الحديثة في الفن التشكيلي وأسبغ عليها من روحه ومن مخزونه الحضاري البابلي والبغدادي، فجاءت لوحاته تبشر برياح التجديد دون أن تستغرب عن محيطها.

شاهدت لوحة لبيكاسو لا تتجاوز أبعادها المتر في متر، لكن أشرعتها تنتشر في طول العالم وعرضه. لقد خرجت من تحت عباءة هذا الإسباني قصير القامة، عملاق الموهبة، أجيال من الرسامين الذين حاولوا أن يقلدوه. إنهم مثل الكتاب الذين يوصفون بأنهم خرجوا جميعا، «من معطف غوغول»، رائد القصة القصيرة في روسيا الذي توفي قبل مائة عام من ولادتي.

وقفت، بل جلست، أمام لوحة «الفتاة مع الماندولينا» التي هي من أنواع القيثارة، وحاولت فكفكة طبقاتها الشكلية واللونية التي تبدو مثل حلوى «الميلفوي» الفرنسية. هناك دائما مفاجأة لذيذة في طبقة ما. لقد أنجزها بيكاسو في ربيع 1910، قبل أكثر من قرن، لكنها تبدو وكأنها بنت هذه الساعة. وتمنيت لو أفرش منامي وأبيت ليلتي عندها وتمتزج أحلامي بأجوائها الرمادية وبالمربعات ذات اللون الرملي الشفاف. هل قرأتم خبر العجوز التي نسيها موظفو أحد المصارف، لمدة يومين، في قاعة صناديق الأمانات، بعد أن انتهى الدوام وخرجوا إلى بيوتهم؟ ليت حراس «موما» أقفلوا بواباته وعادوا إلى بيوتهم وسهوا عني هناك. غير أن لطخات قاتمة لا بد وأن تتسرب إلى أكثر الأحلام وردية.

كنت أعرف أن هذا المتحف تأسس أواخر العشرينات الماضية، بمبادرة من آبي روكفلر، زوجة الثري المعروف، بهدف تحرير المتاحف الفنية الأميركية من سياستها التقليدية المحافظة وإنشاء مركز يفتح أبوابه للفنانين المجددين والشباب. لكن ما فاتني هو أن أصابع أجهزة المخابرات تسللت إليه ونسقت مع إدارته وجندت نشاطاته ضمن الجهد الأميركي التعبوي في الحرب العالمية الثانية. ورغم أن متحف الفن الحديث في نيويورك مؤسسة خاصة تدار بأموال المتبرعين، فقد كان رئيس مجلس إدارته في خمسينات القرن الماضي، جون هاي وتني، يعتبره «سلاحا من أسلحة الدفاع الوطني» ومركزا تثقيفيا للذود عن مبادئ الحرية الشخصية. ولتحقيق ذلك الهدف، أقيمت عشرات المعارض، في أميركا وخارجها، بتوصية من «مكتب المعلومات الحربية»، ترويجا للتعبير الحر والفن التجريدي، بينها واحد في باريس مولته الـ«سي. آي. إيه» مباشرة.

هل تتصورون بيكاسو وماتيس وفان غوخ ودالي وكلمنت ورفاقهم عملاء، رغما عنهم، للمخابرات الأميركية؟