الرقص فوق التوازنات.. من يسقط أولا؟

TT

لا نعرف ما إذا كان ديفيد إغناتيوس انتظر أكثر من أربع سنوات لينتقم لنفسه من رجب طيب أردوغان الذي فجر غضبه في وجهه أمام الإعلام العالمي خلال حادثة دافوس المشؤومة، لكننا نعرف تماما أن الكاتب الأميركي الشهير وأهم متابعي أجواء الاستخبارات الأميركية وخباياها أشعل عود الثقاب على مقربة من فتيل العلاقات المتدهورة بين أنقرة وتل أبيب، حيث تسعى واشنطن للحؤول دون انفجار برميل يترنح منذ أعوام.

«تسريبة» إغناتيوس في «واشنطن بوست» حول تزويد رئيس جهاز المخابرات التركي هاقان فيدان طهران بأسماء عشرة عملاء إيرانيين كانوا يلتقون الموساد في تركيا والتي جاءت تكملة لتحليل مطول في «وول ستريت جورنال» حول التحولات في سياسة تركيا السورية ومحاولتها لعب ورقة الحركات المتطرفة هناك، كانت كما يقال القشة الإسرائيلية التي أرادت إسقاط النملة وإغراقها وسط مياه جارفة لولا تدخل واشنطن في اللحظة الأخيرة وإعلان تمسكها بحليفها وشريكها التركي.

ما الذي فعله فيدان وأغضب الإسرائيليين على هذا النحو؟

هو نفذ تعليمات وسياسات أردوغان حرفيا في الداخل والخارج، قال إن تركيا لم تعد ساحة مفتوحة أمام الموساد الإسرائيلي الذي سولت له نفسه يوما محاولة سرقة عينات بتربتها للنباتات والأعشاب النادرة في منطقة البحر الأسود شمال تركيا. عارض وجود محطات الارتباط للموساد الإسرائيلي في المدن التركية. وسع رقعة التعاون وانتشار «الميت» التركي في أكثر من عاصمة إقليمية وأوروبية. ترجم على الأرض قرار توسيع رقعة التعاون مع إيران، وأن أنقرة لم ولن تقطع علاقاتها بطهران ولن تسمح بتجييش عملاء يعودون لاغتيال العلماء الإيرانيين. فيدان بإيجاز عكس أجواء تركيا التي تقول إن حكومة أردوغان لا تثق بالقيادة السياسية الإسرائيلية التي تستغل كل فرصة سانحة لمحاصرة وإضعاف تركيا استراتيجيا.

هاقان فيدان لا يقل عنادا عن رئيس وزرائه، فهو أغضب الإسرائيليين في أكثر من مكان ولأكثر من سبب وكان دائما العقبة الأساسية أمام الدعوات الإسرائيلية المتكررة لفتح صفحة جديدة بين تركيا وإسرائيل رغم زيارة مد اليد التي قام بها رئيس جهاز الموساد تامير باردو في يونيو (حزيران) المنصرم إلى أنقرة وفشله في إقناع فيدان بالتوسط لتحديد لقاء مع أردوغان.

ما أغضب تل أبيب هو ليس قيام جهاز «الميت» التركي بواجبه في الكشف عن شبكات تجسس تتحرك فوق الأراضي التركية من دون إذن أنقرة وموافقتها، بل استهداف جواسيسها وقطع الطريق على تحركاتهم واتصالاتهم وتسريب أسماء العملاء الإيرانيين الذين كانوا يتعاونون معها إلى طهران لتقبض عليهم وتقطع الطريق على أهم مصادر المعلومات الإسرائيلية في مسائل حساسة واستراتيجية.

باراك حذر قبل ثلاث سنوات من خطورة تعيين فيدان في هذا المنصب بسبب علاقاته المميزة مع إيران، والإعلام الإسرائيلي بدأ يدعو لمراجعة العلاقات الأميركية - الإسرائيلية مع أنقرة. أما المتشدد منها فهو يردد من دون لف ودوران أن فيدان بات يستحق مفاجأة الصباح الباكر في سيارته بسبب «الخيانة الكبرى»، كأن الموساد اكتشف حقا منظومة العلاقات الواسعة التي بناها فيدان مع كبار رجال الأمن اللبنانيين وكان لاعبا بعيدا عن الأضواء في تقديم الخدمات التي فاجأت الإسرائيليين وأربكتهم على الساحة اللبنانية.

الأتراك يرددون: لماذا تكون أنقرة ملزمة بفتح الأبواب أمام الموساد ليصول ويجول كما يشاء في الأناضول يصطاد الجواسيس ويجيش العملاء؟

احتمال يردد في البعيد حول أن تكون واشنطن هي نفسها من سرب المعلومة إلى إغناتيوس لإفهام تل أبيب أنها ملزمة بتغيير قواعد اللعبة وترك الإدارة الأميركية تمضي وراء فرصة سانحة هي الانفتاح على القيادة الإيرانية الجديدة مع روحاني لقطع الطريق على ملفات تتقدم بعكس ما تريده، وبينها الملف النووي الإيراني والأزمة السورية والتقارب الروسي - الإيراني. واشنطن تلعب ورقة جر الجميع للالتفاف حولها والإصغاء إلى ما تقول بعدما تراجع نفوذها وخسرت الكثير من النقاط على رقعة شطرنج المنطقة في العامين الأخيرين.

أردوغان وحكومة «العدالة» قالاها مجددا: فيدان (الشتلة بالعربية) هو صندوقنا الأسود والغرسة التي لن نسمح لأحد باقتلاعها. فهل تسمح واشنطن لتل أبيب أن تمضي في تهديداتها خصوصا عندما تتضح الصورة أكثر فأكثر ويتكشف للجميع أن اقتراح التقارب الأميركي - الإيراني قد يكون بتوصية من أنقرة نفسها؟ كيف ستتحمل تل أبيب صدمة ثانية بهذه القوة وبهذا الحجم من فيدان الذي قاد عملية «العاصفة» السرية داخل الأراضي السورية وأمّن نقل المحتجزين اللبنانيين إلى إسطنبول ومن هناك إلى بيروت؟