اللي بنى أميركا كان في الأصل روحاني!

TT

30 عاما أو أكثر من «الردح السياسي» بين الولايات المتحدة وإيران؛ فأميركا كانت تعتبر إيران إحدى الدول التي تشكل محور الشر، بحسب وصف الرئيس الأسبق جورج بوش في أحد خطاباته بالكونغرس. وطبعا إيران كانت تصف أميركا، منذ قيام الثورة الخمينية، بالشيطان الأكبر. وظل هذا الشعار ملاحقا لها باستمرار، ولكن شيئا ما في «الظاهر» حدث، منذ غزو الولايات المتحدة للعراق، بحجة ملاحقة نظام صدام حسين، ووقفه عن استخدام أسلحة الدمار الشامل.

وتبين لاحقا أن هذه الحجة كانت واهية، ولا أساس لها من الصحة، وليظهر على السطح بشكل جلي تعاون وتنسيق القوات السياسية والأميركية الموجودة في العراق، وبين إيران وقواتها وزعاماتها الدينية والأمنية التي بدأت في التوغل بشكل هائل لاستغلال الفوضى الحاصلة في العراق، بعد قرار حل الجيش. واليوم تحول هذا «الود» إلى «غزل» علني واجتماعات دافئة بين الطرفين، دونما أي تغيير في المحتوى السياسي العلني، الذي كان سببا في التوتر السياسي الظاهري بين البلدين، اللهم باستثناء رحيل الرئيس الإيراني الأسبق عن المنصب ومجيء رئيس جديد، هو حسن روحاني، بخطاب سياسي «ألين»، وابتسامة أوسع، ليس أكثر.

ولكن «الغزل» مع إيران توسع ليشمل الأوروبيين أيضا، وخصوصا بريطانيا.

إيران نفسها، التي يشكو من توغل نفوذها في دول الخليج الأوروبيون والأميركيون أنفسهم منذ زمن ليس بالبعيد، وإيران «نفسها» التي تستخدم ذراعها الطويلة «حزب الله» في لبنان لابتزاز الفرقاء وإثارة القلاقل والفتن بينهم، للهيمنة على البلد وتحويله إلى بؤرة من بؤر التطرف في المنطقة، وإيران «نفسها» التي تدعم نظاما مجرما دمويا فاشيا يبيد شعبه بكل أنواع الأسلحة والعتاد والذخيرة، بشكل لم تعرف مثله الإنسانية من قبل، على الأقل في العصر الحديث.

هذا النوع من التحول، بل الانقلاب، في المواقف الأميركية، أصاب كثيرين من حلفائها القدامى بالحيرة والقلق والخوف. فلا إيران ديمقراطية «حقيقية»، وإنما تقدم مجموعة مرشحين برضا المرشد العام، يتم انتقاؤهم بشكل عنصري بغيض؛ إذ لا بد أن يكون المرشح فارسيا وشيعيا فقط. ولا هي واحة حريات وحقوق إنسان، فمعروف حجم الاضطهاد والقمع والعنف فيها، بحق كل من يبدي أي رأي مختلف أو مغاير للاتجاه الرسمي للدولة.

ولا يزال يقبع في سجونها أشهر معارضيها، من دون محاكمة ولا حقوق لهم. ولا هي نموذج للتعايش بين الطوائف والأعراق، فالسنة والعرب فيها يُعاملون بأسوأ ما يمكن أن يعامل فيها أي شخص مضطهد ومنبوذ. ولا هي الواحة الاقتصادية الليبرالية الرأسمالية ذات الاقتصاد الحر والمتنوع، فالبطالة في أعلى مستوياتها، ووضع العملة المحلية متردٍّ للغاية، والناتج القومي سيئ جدا والتنوع الاقتصادي ضعيف ولا يبشر أبدا.

أي رسالة تريد أميركا إرسالها بأن «تعتمد» على إيران في المنطقة، فهي لا يمكن أن تريد سائر المنطقة أن تتبع «هذا» النموذج، لأنه نموذج رجعي عنصري طائفي متخلف. ولكن قد تكون أميركا بحاجة لأداة جديدة لها بعد انتهاء دور اليد الإسرائيلية التي كان لها دور ومضى، والآن أصبح المطلوب شيء آخر تماما. فإيران «نهمة»، ولها «أهدافها»، ومستعدة لأن تتاجر بعقلية البازار لأجل تحقيق أهدافها، فهي ستلعب بكروت مختلفة، منها ما هو اجتماعي وديني وسياسي واقتصادي وثقافي، بطرق العصا والجزرة، ثم «بيع» و«تسويق» إيران على أنها العصا الجديدة المناسبة لتحقيق بعض الأهداف في المنطقة، ولكنها عصا مكروهة ومشكوك فيها ولا يؤمن جانبها.

وما لا يعرفه صناع القرار في الولايات المتحدة أنهم لم يختاروا إيران على حساب حكومات أخرى في المنطقة، ولكنهم اختاروا إيران على حساب شعوب في المنطقة.

رسالة خطيرة ترسلها أميركا في هذا التوقيت الحرج والدقيق؛ أن «الود والدفء» عاد مع إيران، بينما الواقع الشرق أوسطي يؤكد أن إيران عنصر مخرب في المنطقة.