إيران تلجأ إلى «البازار» لاستعادة حصتها في سوق النفط

TT

قررت إيران بيع جلد الدب قبل اصطياده، وبدأت الاتصالات مع شركات النفط العالمية بعروض مغرية على أساس أن الغرب لا محالة سيرفع العقوبات عنها في وقت سريع. يقول لي مصدر غربي: «هناك شعور فائق بأن الرئيس الأميركي باراك أوباما غير عابئ بحلفاء الولايات المتحدة. يعتقد أنه إذا أظهر ليونة مع القيادة الإيرانية فسوف تبادله بأكثر من تحية.. لا يعرف طبيعة البازار الإيراني. قد لا تهتم إيران بالحصول على السلاح النووي، إنما يكفيها أن يبقى العالم يتحدث عن احتمال أو عدم احتمال امتلاكها ذلك السلاح، المهم أن تمتلك اليورانيوم المخصب». يضيف: «إيران تريد أن تصبح واحدة من الدول العظمى، وأن تسيطر على المنطقة، لكن هذا لن يتحقق. ما تطلبه أو تحلم به أبعد من قدرتها على تحقيقه، لكن المشكلة أن أوباما في عملية التفاوض يبيع كل أصدقاء أميركا، والإيرانيون يشعرون بأن الرئيس الأميركي يقف إلى جانبهم وحتى في متناول يدهم»!

يقول: «كل هذه العملية ستأخذ وقتا، ولكن حلم إيران لن يتحقق، وأوباما يقاتل ضد فرض عقوبات جديدة على إيران لأنها ستفجر كل (علاقاته) الجديدة معها».

إيران قررت عدم الانتظار.. تستطيع فتح مسارات كثيرة حسب اعتقادها. هي تراقب توتر المستثمرين الدوليين لما يحدث في ليبيا (الدولة النفطية) وأجزاء من شمال أفريقيا، وبسبب الاضطرابات السياسية في مصر قامت شركات أميركية منقبة عن النفط ببيع حصصها لشركة صينية، كما أن شركتي نفط أميركية وهولندية أدارتا ظهريهما للنفط الليبي.

منذ دخول بعض الدول العربية في أزمات الثورات مع بداية عام 2011 وإيران تراقب وتنتظر على الحدود الشرقية بصبر. ثم جاء الرئيس حسن روحاني وبدأ هجومه «السكري» على الغرب، ويعتقد حتى الآن أنه يكسب وسوف يكسب.

عندما تولى منصبه الرئاسي أعطى توجيهاته لوزارة النفط بالعمل على اتخاذ إجراءات تعكس أضرار سنوات سببتها العقوبات الدولية، وقالت شركة النفط الوطنية الإيرانية إنه ستكون هناك خيارات جديدة لإيران في سوق النفط إذا كانت الظروف مواتية. وخلال صلاة أول جمعة من هذا الشهر، قال رجل الدين الإيراني كاظم صديقي الذي كان معارضا للرئيس السابق محمود أحمدي نجاد إنه قد يكون حان الوقت لأميركا وإيران كي «تتكاتفا» في محاولة للتخلص من العقوبات!

في هذا الجو، تسوق إيران حافزا كبيرا بأن تمنح المستثمرين الأجانب مدخلا للوصول إلى احتياطات النفط والغاز الهائلة لديها. وبالفعل بدأ وزير النفط الإيراني بيجان زنكنه بإرسال إشارات مشجعة بأن روح الانفتاح التي تبديها القيادة الإيرانية قد تمتد إلى سوق الطاقة الإيرانية إلى درجة أنه قال: «تجري إعادة كتابة العقود للسماح لمزيد من الاستثمارات الأجنبية في هذا القطاع بما فيها خيار تطوير حقل بارس الجنوبي». ونقلت وكالة أنباء وزارة النفط الإيرانية «شانا» عن زنكنه قوله في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) الحالي: «سنفعل كل شيء لاستعادة حصة إيران في السوق النفطية... لقد أجريت اتصالات مع شركات نفطية أجنبية بهذا الخصوص، وكلها أبدت استعدادا للعودة إلى إيران».

تجس إيران النبض حول تسويق فكرة الإعلان عن رغبتها في تحرير سوقها النفطية، إضافة إلى وعود بعقود مغرية يمكن أن تدفع بالغرب إلى تخفيف العقوبات الاقتصادية عنها حتى من دون أن تقدم التنازلات المطلوبة بالنسبة لبرنامجها النووي.

تملك إيران ثالث أكبر احتياطات نفطية مؤكدة في العالم، وثاني أكبر احتياطات من الغاز الطبيعي، لكن العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واستهدفت قطاعي النفط والمصارف قلصت إنتاج إيران النفطي وجعلت من الصعب أن تبيع نفطها في الأسواق الدولية.. ثم إن العقوبات ثنت الشركات الغربية عن الاستثمار في إيران، لذلك تراجعت صادرات النفط الإيراني إلى النصف من مستويات ما قبل العقوبات التي كلفت طهران مليارات الدولارات.

من المؤكد أن تراجع صادرات النفط، وتهاوي الاقتصاد الإيراني دفعا القيادة الإيرانية إلى إعادة التفكير في كل مواقفها.

أي تخفيف فوري أو واسع للعقوبات مستبعد حاليا. الدول الغربية أكدت أن العقوبات ستخفف فقط عندما تتخذ إيران خطوات ملموسة نحو الحد من تخصيب اليورانيوم، وتسليط الضوء على برنامجها النووي. وكانت المتحدثة باسم الخارجية الأميركية قالت يوم السبت الماضي، إن أي خطوة باتجاه تخفيف العقوبات المفروضة على طهران ستكون متناسبة مع طبيعة الخطوات التي تتخذها إيران للتخلي عن برنامجها النووي. إن موقف الليونة الذي صدر عن القيادة الإيرانية منذ رحلة روحاني إلى نيويورك، سببه بالتأكيد تقلص العائدات النفطية. لكن إذا كانت العقوبات هي التي دفعت بإيران إلى التفاوض وارتداء قناع الليونة، فما الضمانات التي تؤكد أن إيران ستستمر بهذه الطريقة مع عودة اقتصادها إلى المسار الصحيح؟ وبالنسبة للقيادة الإيرانية وبالذات الرئيس روحاني، هل مع عودة تصدير النفط الإيراني إلى سابق عهده، لن تلجأ حكومته إلى التشديد الأمني على الشعب الإيراني؟

حتى الآن الإعدامات مستمرة بشكل يفوق الوصف، والإيرانيون محرومون من التمتع والاستفادة من ثورة الاتصالات.

وإذا راجعنا التاريخ الإيراني الحديث، فسنلاحظ أنه مع كل طفرة نفطية، حصلت هزة إيرانية.

عندما قامت الثورة الإيرانية عام 1979 كانت إيران في ذروة الثروة النفطية.. أسعار النفط تضاعفت ثلاث مرات، فقام الشاه محمد رضا بهلوي بالانكباب على برنامج التحديث، والميزانية الضخمة زادت من توقعات الطبقة الوسطى. لكن الشاه بدأ يفرض نفسه إقليميا ودوليا، وكانت رؤيته أن إيران ستتحول قريبا إلى قوة اقتصادية عالمية كبرى. لكنه في الداخل زاد من التشدد الأمني، وزج بالمعارضين في السجون.. أقام احتفالات ملكية متجاوزا تفشي الفقر المدقع في الأرياف.

ارتفاع أسعار النفط جعلت الشاه يعتقد بأنه لا يخطئ. وما جرى لاحقا هو ما تعيشه إيران اليوم.

أيضا ارتفاع أسعار النفط فيما بين 2008 و2009 أنتج الغرور نفسه في مواقف الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد والنظام ككل.. قمع بالحديد والنار المظاهرات التي اندلعت بعد التزوير في الانتخابات الرئاسية.. آلاف المساجين السياسيين لا يزالون في السجون، وكثيرون هربوا من إيران. كذلك، فإن وصول أسعار النفط إلى 100 دولار للبرميل جعل إيران لا تخشى من العقوبات، ولم تتوقع أن تجرؤ الدول على زيادة العقوبات، وظل أحمدي نجاد (رغم اعتراف الجميع بأنه باني القوة العسكرية والنووية الإيرانية) يسخر من قرارات مجلس الأمن وجلسات الجمعية العمومية.

لكن عندما تولى الرئاسة محمد خاتمي 1997 - 2005 (كان سعر برميل النفط 20 دولارا)، اقترح حوار الحضارات، ووقعت إيران أكبر عدد من اتفاقيات الاستثمار الثنائي، واتفاقات التجارة الحرة، وعززت المجتمع المدني، وتحسنت حرية الصحافة، وتميز عهده بزيادة الحريات الاجتماعية والاقتصادية للإيرانيين.

انتخابات يونيو (حزيران) 2013 جاءت نتيجة للوضع الاقتصادي الصعب.. هذا الوضع جعل النظام يعود للتفكير في شعبه وعلاقاته الدولية خاصة مع الغرب.. حتى فوز روحاني (المعتدل) ما كان ممكنا أو ليسمح به المرشد الأعلى لولا تنامي الضغط الاقتصادي جراء العقوبات الدولية. إن حملة العلاقات العامة لسحر الغرب التي تقوم بها إيران يجب أن تؤخذ، كما يقال، مع حبة ملح.. فالنظام يعرف كيف يستعمل الدهاء عندما يتعلق الأمر بالدبلوماسية.

من ناحية أخرى، فإن أي تحرك من جانب حكومة روحاني لتحرير قطاع الطاقة، ودعوة الشركات الأجنبية للعودة، سيواجه معارضة شديدة من المحافظين المتشددين.

لا يزال هؤلاء في السلطة.. يقبلون الاستثمار الأجنبي إذا ضمنوا حقوقهم من ذلك، وحصلوا على فوائد.. يريدون المحافظة على امتيازاتهم.. لكن هل ستوافق شركات النفط الكبرى على دفع الرشى؟