قلمي وأفراحه

TT

في لحظة فارقة من تاريخي المهني التقيته. ولم يسعدني الحظ بعدها بلقاء آخر. كنت إذا سمعت صوته القوي المفعم بالفرح.. بالحياة، تذكرت ذلك اللقاء واعتراني خجل، احتفظت به لنفسي كل تلك السنين.

التقيت الفنان الراحل وديع الصافي في عام 1978، ولم أكن وحدي، بل كان بصحبتي زميل موهوب هو وفائي دياب.

في مجال العمل الصحافي، يلتقي الصحافي العشرات وربما المئات من الشخصيات. بعض الشخصيات تترك أثرا وأخرى يلفها النسيان. وأنا لم أنسَ لقائي وديع الصافي أبدا؛ ربما لأنه أثناء اللقاء وظف ذكاءه الفطري وخبرته مع الصحافة والصحافيين فاستشف أنني كنت خجلى ومترددة ومرتعبة وقليلة الخبرة. فقد كان عام 1978 هو العام الأول من حياتي المهنية. وكان اللقاء بوديع الصافي هو أول لقاء صحافي كلفني إياه رئيس التحرير الأستاذ رشاد الهوني - عليه رحمة الله. وإلى يومنا هذا، لا أعرف إن كنت ارتعبت من شهرة الفنان أم خفت من عدم درايتي بالمطلوب مني تحديدا.

في الطريق إلى لقائه، سألت وفائي دياب إن كان يتوجب علينا أن نكتب الأسئلة كمحاولة لاكتشاف جانب جديد من شخصية وديع الصافي. فقال لي ببساطة: «انظري في عينيه وأطيلي النظر تجدي أنه عالي الذكاء وشديد الطيبة أيضا. وسوف يلهمك حضوره الأسئلة التي يتوجب طرحها عليه».

لم أنسَ تلك النصيحة من زميلي أبدا، وما زلت إلى يومنا هذا أنظر إلى ضيفي نظرة مباشرة لأكتشف كينونته قبل أن أصوب سؤالي الأول نحوه. أنظر إلى الضيف وأستعيد نظرة التعاطف التي اختصني بها وديع الصافي. وقبل أن أطرح عليه سؤالا، بدأ هو بسؤالي عن مصر وعن الأسباب التي دعتني للوجود في لندن وليس في القاهرة. وحين أجبته بأنني دارسة، اعتلت ابتسامة صغيرة الجانب الأيسر من فمه، وسألني إن كنت أدرس الموسيقى، فاحتميت بإجابتي قائلة إنني دارسة أدب. فاتسعت ابتسامته وهز رأسه وقال: «سيكون لك مستقبل كبير فلا تقلقي».

ومر العام تلو العام تلو العام والتقيت الملكة ناريمان، ملكة مصر السابقة وزوجة الملك فاروق الأول. كانت تزوجت طبيبا وأصابها مرض وجاءت إلى لندن للعلاج. قبل اللقاء، تجدد إحساسي بالقلق الذي جربته في ذلك اللقاء الأول مع وديع الصافي. كنت أتساءل بيني وبين نفسي كيف أخاطب ملكة سابقة وماذا أقدم لها؟ هل يكفي أن أحمل إليها صينية عليها كوب من عصير البرتقال؟ وما نوع الحديث الذي يمكن أن يدور بيننا بعد أن تبدلت حياتها من حال إلى حال؟

في ذلك الوقت وبعد سنوات قليلة من ممارسة العمل الصحافي، اكتسبت شيئا من الثقة والاطمئنان وأحببت العمل الصحافي حبا ملك نفسي. وقررت قبل اللقاء مع الملكة السابقة أن أوظف نصيحة وفائي دياب مرة أخرى. وحين فتحت بابي وطالعني وجه ناريمان الجميل الذي لم يكن تغير الأحوال والمرض قد أذبله، نظرت إلى عينيها نظرة مباشرة وقلت: «مرحبا»، وأشرت إلى باب الصالون. وجلست وجلستُ قبالتها. وقبل أن يستبد بي القلق، بادرتني هي قائلة: «هل أطمع في طلب شال التف به حماية من برد لندن». فقمت واقفة وصعدت الدرج وفتحت خزانة ثيابي وتسابقت أصابعي في فرز محتويات الخزانة بحثا عن قطعة ثياب تليق بملكة. وحين ناولتها الشال الأحمر ابتسمت وشكرتني. استأذنتها لحظة. ودخلت إلى المطبخ لإعداد العصير. وفوجئت بأنها تبعتني إلى المطبخ وسألتني إن كنت بحاجة إلى مساعدة. فشكرتها. ففاجأتني مرة أخرى بأن تناولت السكين وحبة بطاطس كنت وضعتها في وعاء انتظارا لانتهاء اللقاء الصحافي لكي أبدأ في إعداد العشاء. وبدأت ملكة مصر في تقشير البطاطس في مطبخي.

في عام 1999، مهدت ظروف العمل بعد أزمة كادت تضع كلمة النهاية على عملي الصحافي للقائي جمال مبارك. وإلى يومنا هذا لم أكتشف بعد لماذا كنت هادئة قبل اللقاء، ولبقة أثناءه، وشبه موقنة بأنني أمسكت بخيوط الموقف بما ينذر بانتهائه على خير.

فما الذي تغير بين عام 1978 وعام 1999؟ من بين عشرات الوجوه والأصوات والموضوعات المكتوبة، يظل وجه وديع الصافي، تغمده الله برحمته، وصوته العذب القوي وابتسامته العطوف تؤازرني وتبعث في نفسي اطمئنانا بأنني يمكن أن أكون الطرف الأقوى في الحديث مع ضيف جاءني طائعا مختارا.