الثمن اللبناني للنزاع السوري

TT

أن يكون لبنان جزءا لا يتجزأ من معظم أزمات الشرق الأوسط.. أمر يفرضه واقعه الجغرافي - السياسي.

على هذا الصعيد، قد يكون لبنان مكرها لا بطلا. أما أن تكون مؤسسة الدولة في لبنان فاقدة الهيبة ومعدومة الحضور وسط أسوأ أزمة هوية تمر بها منطقة الشرق الأوسط، فأمر لا يستسيغه أي منطق سياسي لم يفقد بعد موطئ قدمه على أرض واقع لبنان المذهبي والطائفي.

لبنان المستقل لم يتغير كثيرا عن لبنان القائمقاميتين أو لبنان المتصرفية. ولا ينسى اللبنانيون أن شعار المكلف تشكيل حكومة ما بعد أحداث عام 1958 الدامية، الرئيس الراحل صائب سلام، كان، رسميا، العودة إلى «لبنان واحد لا لبنانان».

حبذا لو بقي هذا الشعار واردا في عام 2013، وفي عهد الرئيس المكلف الجديد، تمام سلام ابن صائب سلام، لهانت عندها أزمة لبنان وسهل حلها داخليا وتسوويا.

ولكن «اللبنانَيْن» اللذين تحدث عنهما صائب سلام عام 1958 صارا اليوم «لبنانات» متعددة بفضل اتساع نطاق تشرذم اللبنانيين، مذهبيا وسياسيا، ونتيجة تجذر دور اللاعبين الإقليميين في شؤون لبنان الداخلية.

مع ذلك، ورغم التردي المتواصل في سمعة الدولة اللبنانية وهيبتها وحتى في حضورها المؤسساتي والأمني، ما زال معظم السياسيين اللبنانيين يراهنون على الخارج لتحقيق «مكاسب» في الداخل.. وهكذا بعد أن كان لبنان «الدولة» إشكالا محليا صار إشكالا إقليميا مرشحا لأن يتحول إلى قضية دولية - سواء حضر لبنان الرسمي مؤتمر «جنيف 2» أم لم يحضر.

بعد تورط حزب الله العسكري في سوريا وتفجيرات الضاحية الجنوبية و«انتفاضة» الشيخ أحمد الأسير في صيدا ومعارك طرابلس الدموية والدورية.. يجوز التساؤل: إلى أين يأخذ بعض السياسيين اللبنانيين لبنانهم اليوم - بوعي كان أو دون وعي؟

غلواء مناصرة بعض الأحزاب العاملة في لبنان - ولا نقول اللبنانية - للنظام السوري وعمق ارتباطها بالنظام الإيراني يوحيان بأن الأزمة السورية قد تسوى سياسيا قبل أن تحل عقدة تشكيل الحكومة اللبنانية. ولكن، وحتى في حال تشكيلها قبل مؤتمر «جنيف 2»، لا يبدو أن الأزمة السورية ستسوى دون «ثمن» يدفعه لبنان الدولة، إن لم يكن كل اللبنانيين.

لا جدال في أن الأزمة السورية كشفت وهن الدولة اللبنانية وتحلل نسيجها الاجتماعي مما يفرض بأن يكون السؤال المطلوب من السياسيين اللبنانيين الإجابة عنه في هذا المنعطف الدقيق من تاريخهم هو: ما هو هذا الثمن؟

لم يعد خافيا أن من الصعوبة بمكان إعادة توحيد «لبنانات» الأمر الواقع بعملية «تبويس لحى» عشائرية أو باللجوء مجددا إلى شعار «لا غالب ولا مغلوب» الذي استنفد دوره بعد أن أفرغ من معناه. لذلك لم يعد مستبعدا أن يواجه لبنان استحقاقين كلاهما أصعب من الآخر:

- استحقاق داخلي يمد بعمر كيان «سايكس - بيكو» الجغرافي (ولو إلى حين) بعملية جراحية دستورية تلغي القاعدة الطائفية لنظام تمثيله الديمقراطي وتصنف الأحزاب العميلة للخارج كمؤسسات «لوبي» أجنبية (كما في الولايات المتحدة) أو، في حال فشل هذه العملية الأولية اعتماد نظام فيدرالي يؤطر الكيان اللبناني في «كانتونات» تمثل الأكثرية المذهبية لسكانها وتتمتع بشكل من أشكال اللامركزية الإدارية.

- استحقاق خارجي جذري، وكارثي في آن واحد، يعيد رسم خريطة «سايكس - بيكو» من منطلقات إثنية - طائفية بعد أن تحول لبنان إلى تشيكوسلوفاكيا الشرق الأوسط، أي إلى دولة تتعايش مكوناتها الاجتماعية بصعوبة ظاهرة مع بعضها البعض.

استحقاقان كلاهما مر.

ولكن الأمرّ منهما أن يستمر بعض السياسيين اللبنانيين في الاستقواء على الدولة إلى حد الاستهتار بها غير آبهين بخطورة البديل - عليهم قبل غيرهم من اللبنانيين العاديين.