حين يهدد الغوغاء

TT

بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، تنامى اتجاه لدى الأميركان للحذر من ركوب الطائرات ووسائل النقل العام، والتوجس من الوجود في أماكن مغلقة تجتمع فيها الحشود، كالمطاعم والمقاهي. كان هذا نتيجة طبيعية للمشهد المروع الذي عايشوه جراء تفجيرات إرهابية أودت بحياة الآلاف، لكن وقف أمام تنامي هذه النزعة رأي يصر على أن الرد الصحيح على هذا الإرهاب هو الاستمرار في ممارسة الناس لحياتهم الطبيعية، بحذر، لكن من دون خوف يسيطر عليهم يحرمهم من التمتع بحرياتهم اليومية، ويهدي «القاعدة» وبقية الإرهابيين ما يريدون، ألا وهو التراجع أمام تهديداتهم. إذ مشروع التطرف والإرهاب القاعدي هو مصادرة حرية الآخرين، عبر إرهابهم وتهديد حياتهم. وبالفعل انتصر هذا الرأي، وتمسك المجتمع الأميركي بحرياته، ولم يختبئ في الجحور، بل قاومت قطاعات منه الأنظمة التي شرعت للتنصت على الناس بحجة ملاحقة «القاعدة».

ما يحصل في بعض مجتمعاتنا هو شيء شبيه بهذا؛ يبدأ مشروع للتحديث أو لإعطاء بعض الفئات حقوقها، فتبدأ مجموعة بسيطة تهدد باستخدام العنف لإفشال هذا المشروع واحتجاز المجتمع في أفكارهم المتطرفة أو تخويف الناس من ممارسة حياتهم الطبيعية. في الحقيقة، يقوم مشروع كثير من التيارات المتطرفة ليس على ممارستهم أو انتزاعهم لحقوق تخصهم، بل على قمع حقوق وحريات تخص الآخرين، بدعوى إعادة تنظيم المجتمع وفق رؤية تخصهم؛ يقتلون مجموعة من الناس ليخضع لهم بقية المجتمع خوفا، يدمرون مكانا للعبادة لكي يتجنب الناس ممارسة حياتهم الدينية بشكلها المعتاد.

في أبريل (نيسان) الماضي، حكم قاضٍ أميركي على مقاتل أميركي سابق في صفوف المارينز بالسجن 20 عاما، لإدانته بمحاولة إحراق سجاد مسجد في ولاية أوهايو، بعد أن اقتحمه بدافع الانتقام للجنود الأميركيين الذين قتلوا وأصيبوا على يد مسلمين، ولكن القاضي رد على مبرراته في ديباجة الحكم قائلا إن «مرتكبي جرائم الكراهية من أمثاله، يريدون أن يدمروا ما هو أبعد من المباني. إنهم يستهدفون نمط حياتنا.. لأن حريتنا أكبر من حقد هذا الرجل»، يعلق الكاتب المصري عمرو عزت على هذا الحكم قائلا: «العبارة الأخيرة لن تجد لها مثيلا في ديباجة حكم من محكمة مصرية على أحد المعتدين على الكنائس أو حتى المساجد ذات الأضرحة، التي تعرّض بعضها للاعتداء والحرق، بل والهدم الجزئي والكامل»، بالفعل لن نجد في محاكمنا أحكاما كافية تردع من يهدد بعمل يرهب فيه الآخرين عن ممارسة حياتهم وحرياتهم اليومية، لأن الحقوق والحريات المكفولة لكل إنسان لم تغرس جيدا في ثقافتنا، ولا تفسيراتنا للدين، وبالطبع لم يشرع ما يكفي من قوانين لحمايتها، فيصبح من السهل أن يخضع مجتمع بأكمله لتهديدات مجموعة من الغوغاء بممارسة العنف تجاه من يمارس حياته الطبيعية.

لننظر حولنا، ولنتفقد كم من تحديث عطلناه، وكم من حرية وحق امتنعنا عن إعطائها لأصحابها تحت ضغط الخوف من ممارسة مجموعة متطرفة للعنف، بالإمكان الحذر من عنف هذه المجموعات، لكن لا يمكن لمجتمع أن يرتهن عقودا متتالية تتعطل فيها حياة الناس الطبيعية وتتعطل مشاريع التحديث تحت تهديدهم. يجب أن يذهبوا هم لجحورهم، بدل أن نختبئ نحن في جحور الخوف.