انتفاضة الحجارة

TT

في ديسمبر (كانون الأول) 1987، حدث أن دهس سائق شاحنة إسرائيلي عددا من العمال العرب في طريقهم إلى مخيم جباليا بقطاع غزة. كانت أعصاب الفلسطينيين متوترة كعادتها في ذلك الحين، كما في كل حين، فانفجروا في أعمال غاضبة تضمنت الانتقام بقذف الحجارة على السائق، وسرعان ما عمت كل الجهات حيثما وجد إسرائيليون. وهكذا، بدأ ما يسمى انتفاضة «أطفال الحجارة».

كانت قد سبقتها انتفاضة أخرى مسلحة، ولكنها تضمنت استعمال السلاح، مما مكن الإسرائيليين من الرد عليها بالمثل، فقمعوها أخيرا بما عرف عنهم من البطش العنيف والانتقام الشرس. يظهر أن الفلسطينيين وعوا ذلك فتحاشوا استعمال السلاح هذه المرة وآثروا التزام اللاعنف مع استعمال الأطفال في رمي الحجارة على الجنود. وكانت أول صفحة من سجل الجهاد المدني في الساحة الفلسطينية. شهد هذه العمليات الخبير النرويجي في شؤون اللاعنف البروفسور جين شارب، وقدر أن هذه الانتفاضة الثانية كانت 80% لا عنفية. فالقذف بالحجارة على شخص ينطوي على شيء من العنف. وبالفعل، أدى إلى مقتل عدد من الإسرائيليين مقابل عدد أكبر من الفلسطينيين.

بيد أن هذا الأسلوب الجديد من المقاومة أربك القيادة الإسرائيلية فلم يعرفوا كيف يردون عليه. لم يعد بأيديهم مبرر لفتح النار على أطفال صغار يرمون الحصى. ولم يكن من اللائق للجندي أن يفعل مثل فعلهم ويشارك بما يصبح فعلا لعبة أطفال.

وصل الحنق والغضب في القيادة الإسرائيلية أن صرح إسحق رابين بأنهم سيردون على ذلك بكسر أيدي وأرجل من يرمي بحجارة على الجيش. ونفذ بعض الجنود ذلك فعلا فكسروا أذرع بعض الأطفال. قام أحد أنصار حقوق الإنسان الإسرائيليين بتصوير ذلك وبث الصورة عالميا بما أحرج الحكومة الإسرائيلية أمام الرأي العام العالمي.

لا أدري. ربما ساهمت هذه الانتفاضة الثانية اللاعنفية في حمل حكومة رابين أخيرا على الاستجابة للوساطة النرويجية في الوصول إلى سلام دائم مع الفلسطينيين يتضمن منح الضفة الغربية استقلالها، بما يعني وجود دولتين، وهو ما عرف فيما بعد باتفاقية أوسلو. وبها توانت همة الفلسطينيين في مواصلة الانتفاضة والركون إلى آمال إقامة دولة فلسطين.

ما يؤسفني شخصيا على هذا الصعيد، أن بعض الشباب الفلسطيني ممن قرأوا ما كتبت عن الجهاد المدني، دعوني إلى الالتحاق بهم لتثقيفهم وتدريبهم على اتباع أساليب هذا العمل اللاعنفي. بيد أن أسبابا صحية حالت دون تلبيتي هذه الدعوة وحرمتني من المساهمة العملية، وليس النظرية فقط، في هذا المسعى. تولى هذه المهمة فيما بعد زميلي مبارك عوض، ولكن إسرائيل اعتقلته وطردته من فلسطين.

جرت فيما بعد انتفاضة ثالثة ولكن مسلحة، أعطت إسرائيل فرصة لقمعها في ذلك القصف المكثف والفظيع على غزة. ويظهر أن الفلسطينيين قد وعوا الدرس فلم يستجيبوا أخيرا لدعوة حماس بشن انتفاضة رابعة مسلحة.