بين ضحالة التفكير وعمقه

TT

لم يكن موسم حج هذا العام مميزا في تنظيمه وحسب، بل حمل مفاجآت سارة، على رأسها أداء عضو حزب الحرية الهولندي السابق فريضة الحج بعد اعتناقه الإسلام، قبل أشهر، وهو الحزب اليميني المتطرف الذي أنتج أعضاؤه فيلم «فتنة» المسيء للإسلام، وكان الحاج «أرنود فان دورن» أحد المساهمين في إنتاج الفيلم والتسويق له إعلاميا. اتخذ «فان دورن» قراره بالدخول في الإسلام، بعدما تعمق في القراءة عن الدين الإسلامي بهدف التحضير لإنتاج فيلم مسيء آخر، ولكن بدلا عن ذلك، أخذته قراءته إلى الطريق المعاكس، فاعتنق الإسلام طوعا.

الجميل في شعورنا تجاه هذا الحدث، ليس كون الرجل بدّل دين أبائه وأجداده؛ فكل يوم يحصل أن يدخل في الإسلام من يدخل، ويخرج منه من يخرج. إنما المثير في كونه الرجل الذي ناله وفريق إنتاج الفيلم تهديدات بالقتل والانتقام من قبل مسلمين أخذتهم غضبتهم، وهددوا بالنيل ممن نالوا من الإسلام ومن النبي الكريم (عليه الصلاة والسلام).

الحاج الذي جاء من شمال الكرة الأرضية تائبا نادما محبا لله وللرسول كان مهددا بالقتل من المسلمين الغاضبين، فماذا لو أن التهديد تحول إلى واقع، كم ستكون خسارة للمسلمين ولصورة الإسلام في أوروبا؟

ربما لا يعلم كثيرون أن فيلم «فتنة» جاء بعد سنوات قليلة من اغتيال هولندي قام بإخراج فيلم من 12 دقيقة يعرض الإسلام على أنه دين محرض على العنف ضد المرأة، فكان أن قام شاب هولندي مسلم بإطلاق الرصاص وقتله، ثم كتب تهديدا على ورقة ووضعها على صدر القتيل. هذه صورة مريعة يجري تسويقها زورا على أنها تمثل النهج الإسلامي، فمهما كان سمو الهدف، فإنه لا يبرر فظاعة النتيجة لأنها تظهر الإسلام وكأنه يخاطب العالم بلغة الدم والكراهية، وستكون هذه الصورة تعزيزا لادعاءات المتطرفين من المسيحيين والملاحدة في أوروبا ضد الإسلام، وترويجا مجحفا في حق دين الرحمة والعدل.

النبي الكريم محمد (عليه الصلاة والسلام) حدد أعلى مراتب القوة، حينما قال: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب»، أي أن القوة ليست في مصارعة الآخرين، بل في مصارعة النفس والتحكم في انفعالاتها ودوافعها، والحديث لم يفصّل في أسباب الغضب، لأن العبرة بالنتيجة وليس السبب.

لن يصل أي مسلم في أي زمان أو مكان إلى درجة غيرة الرسول (عليه السلام) على الإسلام، ولن يذود أحد عنه كما فعل، مع هذا كان الرسول النموذج يملك عقلا راجحا وحكمة في استشراف المستقبل، لذلك حين دخل مكة فاتحا منتصرا، وقد حيزت له الدنيا، لم يفُتْه أن يقول: «من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن»، وأبو سفيان حينها لم يكن قد دخل الإسلام بعد، وكان ممن استعدى الرسول وأتباعه عداء شرسا كاد يكسر شوكتهم، لولا كلمة سبقت من الله تعالى. ومثل ذلك كانت سياسته (عليه السلام) مع عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية، اللذين تشربا كره الإسلام من أبويهما أعتى صناديد قريش، وكانت لهما يد متجبرة على المسلمين بالتنكيل والتضييق، لكنه يوم الفتح منحهما الأمان لئلا يتعرض لهما أحد من المسلمين بالأذى، فما لبثا أن جاءا الرسول طائعين مسلمين، وبذلا نفسيهما وأموالهما في خدمة الإسلام حتى استشهدا بطلين.

التاريخ الإسلامي يحمل كثيرا من هذه الوقائع التي تؤكد أن الغضبة لقضية أو لشخص أو لمذهب لا تخدمه بقدر ما تخدمه المداراة والصبر، وإن كان المسلمون يستهدفون من يعادي الإسلام من دون النظر إلى المصلحة البعيدة فهذا عيب صريح في الفهم ونقصان في العقل. ولو كان الانتصار للنفس أولى من جلب المصلحة، لما بادر الرسول الكريم بالصبر على شرار كفار مكة الذين أذوه معنويا وجسديا، على الرغم من أن الله تعالى أرسل له ملكا في لحظة حزنه وإحباطه يخيره إن أراد أن يطبق على أهل مكة الأخشبين، والأخشبان هما جبلان يحيطان بمكة، لكن الرسول الكريم أبى لسبب له وجاهته، وهو أنه يرجو أن يخرج الله من أصلاب المشركين من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا. هذه رؤية مسؤولة وقناعة راسخة بأن معركة الإسلام ليست معركة أفراد، أيا كان هؤلاء الأفراد.

بكل أسف لم يسئ أحد للإسلام كما أساء إليه بعض أبنائه؛ أخذوا منه القشرة الظاهرة وتركوا عمقه الإنساني والفكري، عن جهالة وغرر، أو عمدا للانتصار بمكاسب دنيوية صرفة.

كرجل حديث العهد بالإسلام، سيكون «فان دورن» ممتلئا بالعاطفة الإيجابية تجاه الدين الإسلامي، برغبة جامحة في التعويض عما ارتكبه من إساءة، والتسويق للإسلام في المجتمع الهولندي والأوروبي بأنه الدين الذي يدعو للمحبة والسلام، سيكون له دور مؤثر في تصحيح المفاهيم المغلوطة التي ساهم المسلمون بالنسبة الأكبر في توطينها في ذهن المجتمع الهولندي، الذي ينتظر منه تفسيرا وتبريرا لموقفه الجديد. سيقدم للهولنديين الإسلام الصحيح بكل الوسائل الممكنة؛ من خلال تأسيس حزب سياسي، كما ينوي أن يفعل، وباستثمار إمكاناته وأدواته الإعلامية والفنية لإظهار القيمة الجوهرية للإسلام الحق.

هذا بطبيعة الحال إن سلّمه الله من التجاذبات المذهبية والفكرية وألاعيب المتكسبين بالدين.

[email protected]