المكون الثقافي ودعوات التغيير

TT

في دعوات التغيير الاجتماعي، يبدو أن الجميع يدور في فلك الموضوع الواحد، وهو الدين، يمكن القول إن معظم الاتجاهات التي تظهر حاملة دعوة التغيير لا تختلف موضوعيا عن بعضها، إنما يتركز اختلافها في نظرتها نحو هذا الموضوع الواحد، وعليه فهي تتفاوت في غالبها بين الإصلاح بالدين، ويمثله الذين يسعون إلى تغيير اجتماعي نحو صورة إسلاموية تاريخية، والإصلاح في الدين، ويمثله الذين يسعون إلى تغييرات اجتماعية من خلال تنوير الفكر الديني وانفتاحه وتعزيز سماحته.

وهذه الثنائية على الرغم من وضوحها وإمكانية الموافقة عليها، فإنها في الحقيقة قد تبدو قراءة حادة وغير منصفة للواقع، لأن الواقع الاجتماعي يحتمل اتجاهات أخرى يبدو أن المشاهدة العامة لا تستطيع رصدها، وعلى الموضوع الواحد ذاته، وهو الدين، فهنالك الاتجاه اللاديني الموجود، الذي يعرف بعضه بعضا جيدا، ربما لم يُتَح بعد لهذا الاتجاه الحضور الإعلامي الذي يحدث لغيره، لكنه، على مستوى الواقع، يمارس وجوده، ونخبة المشتغلين به تتوسع على مختلف الشرائح الاجتماعية بما يكسبه الثقة في أحقيته بالطرح.

الملاحظ أن الذين يتجهون للممارسة الإيمانية الحرة يزدادون على مستوى العدد وينشطون على مستوى الحركة، وهو ما يتضح لهم من خلال تواصلهم مع بعضهم، وقدرتهم على خلق أوساطهم وتقوية علاقاتهم الاجتماعية، وهذا ما يساعد الملاحظ على اعتبار الفكر اللاديني اتجاها ثالثا صاعدا في دعوات التغيير الاجتماعي.

يمكن القول إذن إن الموضوع الأساس الذي تدور حوله دعوات التغيير في العالم العربي هو الدين غالبا، سواء كانت من الإسلاميين بكل أطيافهم من الجهاديين إلى الإصلاحيين الذين يريدون الاستمرار في تطبيق صورة المجتمع الإسلامي التاريخي، أو كانت من التنويرين أو الليبراليين الذين يسعون إلى نقد الخطاب الديني راغبين في مجتمعات إسلامية أكثر معاصرة وأكثر انفتاحا على العالم وأكثر انسجاما معه، أو كانت أخيرا من الاتجاه الصاعد من حيث الدعوة إلى رفع يد الدولة عن الدين والحق في حرية الاعتقاد.

بالبدء، وحدة موضوع التغيير لم تكن دائما عملية اختيار فكرية معرفية واعية من مختلف هذه الاتجاهات، بقدر ما كانت تراكما «لا واعيا» لردود أفعال متضادة، فالدعوة الإسلامية المتطرفة والمتشددة التي استبدت برسم صورة موحشة للمجتمع الإسلامي، هي ما يمكن اعتبارها الدعوة الأساس ضمن هذه الاتجاهات الثلاثة، وهي تحديدا من دفعت بنتائجها المخيفة وإفرازاتها السلبية إلى خلق الدعوة الثانية كرد فعل على أحادية الرؤية وتعصب أصحابها ودوغمائية موجهيها، فقد جاءت هذه الدعوة الثانية لتطالب بالانتقال إلى سماحة الإسلام في عهده الأول، من دون الحاجة إلى تشدد وتعصب الفكر المتطرف، وهي كدعوة على الرغم من أنها تذهب إلى الفعل التنويري والانفتاح تجاه العالم وتبادل الثقافات، فإنها تبقى محدودة معرفيا بفرضية موروثة؛ أن المجتمع العربي جميعه يريد الدولة الإسلامية، وهذا الافتراض ليس إلا موروثا لا واعيا، فهذه الدعوة، وإن كانت تنويرية إصلاحية، فإنها تظل محكومة معرفيا بالدعوة التي سبقتها من حيث الموضوع الواحد، وهو الدين.

لقد أصبحت معظم دعوات التغيير تبدو مجرد تراكم لردود فعل ودعوات انفعال لا فاعلية، وإذا كان من بداهة القول التنبيه إلى أن الدعوة الإسلامية كانت منظمة وجماعية من حيث الانضباط الفكري، بينما ظلت الدعوة التنويرية دعوة عقلانية غير منضبطة، كجماعة فكرية ومشتتة الجهود عمليا، فإن هذه البداهة تشير إلى ضرورة تعقيد القراءة لا تبسيطها أثناء محاولة فهم الصراع الفكري بين الدعوات وعدم ترميزها بمجرد فريقين متقابلين.

أما الدعوة اللادينية، كاتجاه ثالث، فهي أيضا تدخل ضمن السقف المعرفي ذاته، وتشتغل حول المكون الثقافي نفسه، هذا الاتجاه الذي يقف موقفا أكثر وضوحا من سابقه، ويتجه إلى حرية المعتقد، لم يخرج عن الموضوع الواحد، بل ظل يعاكسه ويرتكز على مخالفته بدل أن يتحرر من المعركة الواحدة، ويشتغل على خلق واقعه الفكري والعلمي الذي يؤمن به.

والتساؤل هنا ليس عن درجة التفاوت بين هذه الثلاثة الاتجاهات، في نظرتها إلى موضوع الدين فقط، إنما كيف يمكن أن تؤثر وحدة الموضوع على دعوات التغيير، وإلى أي حد يمكن أن تتسبب هذه الوحدة في تغييب مكونات ثقافية أخرى، وأخيرا، ماذا يمكن أن يعادل الدين كمكون ثقافي في العالم العربي؟!