في رفقة الحدائق

TT

عندما جئت إلى نيويورك أوائل السبعينات، كانت مدينة يحذرونك من التجول فيها. وكانت هناك مناطق محرمة، يدخلها الغريب وقد لا يخرج منها. لذلك، كانت رحلاتي محصورة غالبا بين الأمم المتحدة والشقة القريبة. عندما عدت إلى المدينة عام 2009 اكتشفت أن أجمل متعها هي المشي، وتبين لي أن أجمل جمالاتها هو «السنترال بارك» الذي لم أطأه في الماضي بسبب حكايات الخوف فيه.

صار برنامجي اليومي عبور البارك من جهة إلى جهة، مع احتمال الضياع كل مرة. لكنه في كل مرة كان ضياعا معرفيا، ومشيا إضافيا بغير تخطيط. ومتعة البارك أنه عالم لا علاقة له بخارجه. بحيرات وطيور وعشب في دنيا من ناطحات الإسمنت. الناس الذين تراهم خارجا يتسارعون ويتدافعون، تراهم هنا هادئين مثل الطير. يوما بعد يوم يتبين لك أن شريان الحياة في هذه المدينة هو هذه الحديقة: شجرها يولد الأوكسجين وأزهارها تمتع القلب ومجانياتها تفرح الأطفال والأمهات.

هذا الجزء من عظمة المدينة أشرف على بنائه صحافي تائه يدعى فريدريك لو أولمستد. كان أولمستد مفلسا عندما قررت المدينة أن تحول 840 إيكر من حقول الشعير والعليق إلى «حديقة مركزية»، طولها 5.2 ميل وعرضها نصف ميل. تم تفجير 20 ألف برميل ديناميت لتسوية الصخور. أحضرت من الخارج نصف مليون متر مكعب من التربة الصالحة لطمر المستنقعات وزراعة الشجر. في ذروة ورشة البناء، كان هناك 3600 رجل يعملون بإشراف الصحافي التائه. عندما انتهى العمل كانت شهرته قد ذاعت كمهندس حدائق. بنى نحو مائة منها في أميركا الشمالية، منها واحدة جميلة في مونتريال، ومنها حديقة مأوى العجزة في بلمونت، ماساتشوستس. السنوات الخمس الأخيرة من عمره أمضاها في المأوى، عاجزا وكئيبا.

الحدائق رفيقة جميلة. الوحدة فيها أمتع من الرفقة. وكما أنا مدين بلا حدود لما أدخلت في قلبي أم كلثوم وفيروز والمكتبات العامة والخاصة والكتب التي تباع على الأرصفة، هكذا أنا مدين للحدائق. «سنترال بارك» و«هايد بارك» وحديقة «اللوكسمبور» في باريس، التي بدت في شبابي وكأنها بنيت من أجل وحدتي وتعزية لما أنا فيه.

في بيروت عندنا حديقة واحدة تسمى «جنينة الصنائع»، وتكاد لا تتسع لأطفالها، وقد سعى بعض تجار الجمال إلى إبادتها وإقامة شقق للبيع فوقها، وقد يحدث ذلك في مدينة ترخص فيها وزارة الثقافة دفن الآثار الرومانية. كيفما تلفت هناك الكثير منها. لما أراد كمال أتاتورك إعطاء بلاده مجدا لم تكن تملكه، تحدث عن آثار روما فيها. وروما لم تمر من هناك، رغم أنها مرت على كل هذه الناحية من العالم المأهول.

نحن ندفن آثار روما وتاريخنا الحضاري. أول ما فعلته قطر بعد شراء «هارودز» إقامة قاعة سمتها «عصارة الثقافة القطرية». كان محمد الفايد قد أقام في «هارودز» «الدرج المصري» ووضع فيه تماثيل فراعنة لهم معالم المالك السابق للمتجر.