ستة ضيوف.. 450 صحنا

TT

أعتقد أن الهندسة من أهم العلوم وأجمل الفنون. نحن نميل إلى القول مع الجاحظ بأن الشعر ديوان العرب. لكنني أعتقد أنه ليس في الشعر ما يوازي «قصر الحمراء» و«مسجد غرناطة» وصمود حجارتهما في وجه الشمس والسنين. ترك الاستعمار الغربي ذكريات سيئة كثيرة، لكننا ورثنا عنه أجمل ما بناه لأنانيته وافتخاره: الإيطاليون في طرابلس الغرب، المملوكيون في طرابلس لبنان، الفرنسيون في الجزائر والدار البيضاء، والأتراك والفرنسيون في بيروت. لا تزال أجمل بقعة في بيروت هي ما يسمى الآن بـ«الوسط التجاري»، وهو في الحقيقة الوسط الجمالي، أو التاريخي، من مساجد ومبان وخرائب ومدارج قائمة منذ العهدين الروماني والفينيقي. «قناطر الدار البيضاء» تشبه «قناطر نيس»، والفارق نسبة البطالة ورواد المقاهي. في جاكرتا اكتشفت أن المستعمرين الهولنديين بنوا منازلهم على طراز ما عرفوه في البلاد الواطئة والأرض الأدنى من سطح البحر. بعدما تركوا، كان «الحي الهولندي» أجمل الأحياء في بلد من 17 ألف جزيرة ويزيد. «الحي الفرنسي» في نيو أورليانز هو قبلة السياح والزائرين إلى اليوم. المدينة الفرنسية القديمة في مونتريال وكيبك هي أجمل المعالم، الباقي ناطحات سحاب متشابهة مع سائر مدن أميركا الشمالية. إلى الآن يبني اللبناني بيتا ثم يسقفه بالقرميد الذي حمله معه الأمير فخر الدين المعني من منفاه في توسكانا. المدن الحديثة تبحث دائما عن معالم قديمة. واشنطن وبرلين قلدتا روما العتيقة. عندما بدأت الثروات تهبط على أغنياء أميركا بدأوا يقلدون قصور أوروبا. بعضها بلغ حد الجنون. المستر أوليفر إيتون كرومويل بنى في فيلادلفيا منزلا من 272 غرفة و14 مصعدا. أوائل القرن الماضي، سلمت فلوريدا بيوتها الخيالية (مرآب يتسع لأربعين سيارة) للمهندس أديسون ميزنر، الذي صمم منازل تفوق الخيال من دون أن يستخدم قلما ومسطرة. وبعدما ملأ الولاية بيوتا ساحرة، اكتشف أهلها أنه طُرد من نيويورك لأنه لا يحمل شهادة هندسة، أو أي شهادة أخرى. عندما سافرنا إلى ميامي بيتش العام الماضي، سعيت إلى مشاهدة ثلاثة أشياء: منزل آل كيندي الشتوي، ومنزل ريتشارد نيكسون (العادي)، وكيف تبدو جزيرة كوبا في البعيد. لم أر أيا من القصور التي بناها المهندس ميزنر لأنها هُدمت لتقوم مكانها بيوت أكثر أهلية للسكن ولا تكلف صيانتها ملايين الدولارات. سافرت عام 1974 مع زوجتي إلى فلنت، ميشيغان، لزيارة صديقي وابن عمة والدي الدكتور يوسف مقصود، الذي كان يملك مع أبنائه، الأطباء أيضا، أكبر مركز صحي في المدينة. كان يسكن في منزل صغير من ثلاث غرف، لكنه أخذني لرؤية منزله الأول (من الخارج) وقال إن فيه 11 حماما. سألته لماذا ينتقل المرء إلى ثلاث غرف؟ فقال، أولا بسبب التقدم في السن، وثانيا لأن أميركا بلد لا خدمة منزلية فيها. زوجة تشارلز ديكنز، كان عمالها يغسلون 450 صحنا بعد كل دعوة لستة أشخاص.